غدير عدنان نصرالدين - خاصّ الأفضل نيوز
مما لا شكّ فيه أنَّ الذهب هو الرمز الأساسي للأمان الذي يلجأ إليه العديد من المواطنين وكذلك الدُّول، على الرغم من التقلبات الاقتصادية والسياسية المتتابعة التي تهز الأسواق العالمية وتغير العديد من الاستراتيجيات الدولية؛ فالذهب ليس فقط معدنًا يُستخدم للزينة، بل له دور كبير بالاقتصاد ويمتلك بورصة عالمية للأسعار تتغير كل يوم، وإن كان المعدن الأصفر هو ملجأ المستثمرين، إلا أن أسعاره ليست مفصولة عن التأثيرات الخارجية المرتبطة بالسياسات الاقتصادية العالمية.
مؤخراً، شهدت الأسواق العالمية ارتفاعاً جنونياً لأسعار الذهب، متأثرة بسياسات اقتصاديَّة صارمة، من بينها فرض الرسوم الجمركية على الواردات من قبل الإدارة الأميركية الحالية، أدت هذه الخطوة إلى إثارة القلق من احتمال اندلاع حرب تجارية عالمية، ما دفع المستثمرين للاتجاه نحو الملاذات الآمنة، وكان الذهب هو الخيار الأول.
ارتفاع أسعار الذهب أدخل الأسواق العالمية في حالة قلق وترقب، وبما أن تلك الأسعار تُحدد عالميًا، لم يكن السوق اللبناني بمعزل عن هذا التأثير، فالصورة باتت ضبابيَّة، هل الارتفاع في أسعار الذهب يعكس رد فعل الأسواق تجاه السياسات الاقتصادية من ضمنها فرض الإدارة الامريكية رسومًا جمركية على الواردات؟ وهل يمكن للسوق اللبناني أن يتحمل تبعات هذا الارتفاع المستمر في أسعار الذهب؟
الطلب العالمي على الذهب وسط صراع العملات والحروب الاقتصادية
في سياق متصل، أوضح الباحث في الشؤون الاقتصادية، زياد ناصرالدين، في حديثٍ لـ "الأفضل نيوز"، أن تفاقم الظروف الاقتصادية في معظم بلدان العالم، وخاصة مع وجود حروب متناقلة بين أوروبا والشرق الأوسط، ومع توتر العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية بشكل رئيسي، أصبح المستثمر يبحث عن "الملاذ الآمن" والذي يمثله الذهب هذه المرحة، موضحاً أنَّ كمية الطّلب على الذهب أصبحت أكثر بكثير من كمية العرض، مما يجعله مطلبًا رئيسيًّا. ومن ناحية أخرى، أشار ناصرالدين إلى ثلاث نقاط أساسية، الأولى تكمن في أن صراع العملات الرقمية الحاصل في العالم اليوم ولَّد بدوره كثرة الطلب على الذّهب، ثانياً، ضعف الدولار في الولايات المتحدة الأميركية أدى إلى زيادة الطلب على الذهب بشكل أكبر. أمَّا النقطة الثالثة هي شراء المصارف المركزية كميات ذهب كبيرة، قبل وصول الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى سدة الرئاسة، بسبب التّخوف من الصّراع الاقتصادي الهائل والكبير بين الصين والولايات المتحدة، والذي يجعل المعادن هي الضّامن الأكبر بحال استمر الصراع.
إضافةً إلى ما ورد سابقاً، أوضح ناصرالدين أنَّ إقرار موضوع الرسوم الجمركية عزز الطلب على الذهب بشكل أكبر ومازال الطلب مستمرًّا، في حين أن جميع الدراسات المالية في المراكز الأساسية مثل "Goldman Sachs " بالإضافة إلى توقعات الخبراء الاقتصاديين الأمريكيين والأوروبيين العالميين تؤكد أن الذهب هو الملاذ الآمن خلال الفترة القادمة خصوصاً مع الانهيار ببعض بورصات الأسهم، لافتة إلى عدم وضوح التداعيات الجمركية المتوقعة على الاقتصاديات العالمية، وسط غياب أي تأكيدات حول إمكانية عقد طاولة حوار بين الصين والولايات المتحدة...
كما لفت ناصرالدين، إلى أنَّ جميع هذه الاعتبارات تجعل الذهب اليوم هو المطلب الرئيسي ليس لشهر أو شهرين، بل لفترة أطول، فالطلبات على الذهب اليوم عالمياً تفوق إمكانيات العرض وهي طلبات مستمرة للسنوات والأعوام القادمة...أما بخصوص المرحلة والأرقام التي سيصل إليها الذّهب فهي رهن النتائج الاقتصادية المترتبة على موضوع الرسوم الجمركية.
وختم ناصرالدين بالتأكيد على أن تبعات الارتفاع المستمر للذهب مفيد للبنان، مُذكِّراً أن قيمة احتياط الذهب في لبنان عام ٢٠١٩ كانت بين ١٦و١٧ مليار دولار، أما اليوم قد ارتفعت قيمته ووصلت إلى حدود الـ ٣٠ مليار دولار، فعلى العكس هذا يعطي أفقًا للاقتصاد اللبناني.
وفي مقابلة لـ "الأفضل نيوز" مع مدير محل "جَيلان للمجوهرات"، محمد كيلاني، أوضح أنَّ الأونصات لم تختفِ من الأسواق كما يتداول البعض، ولكن الطلب عليها كان استثنائيًا وغير اعتيادي، مما أدى إلى تأخير في تسليمها، فالذهب عادةً يُورَّد بكميات كبيرة مثل "الكيلو" أو "السبائك"، ويحتاج إلى وقت ليتم تحويله إلى أونصات، مؤكداً أن شحنات الذهب تصل باستمرار إلى لبنان، بوتيرة يومية أو كل يومين، كما لفت إلى أنَّ انخفاض عمولة الذهب في لبنان مقارنةً بالدول الأخرى جعل بعض البلدان تتجه لشرائه من السوق اللبناني، الأمر الذي تسبب بضغط على السوق المحلي.
كما بَيَّن كيلاني أنّ بيع الذهب -أي إقبال المواطنين على الشراء- تحسّن كثيراً من شهر رمضان الماضي وحتى هذا اليوم بنسبة تتراوح بين ٤٠٠٪ إلى ٥٠٠٪، إذ إن طلب المواطنين على الذهب كان غير اعتيادي على "المفرّق" وكذلك "الجملة".
أما في ما يخص إمكانيَّة اختلاف سعر الذهب في السوق المحلي عن الأسواق العالمية، أشار كيلاني إلى أنَّ لبنان يُعَدّ من بين الدول الأرخص في عمولة الذهب غير المشغول مقارنةً مع سوريا، تركيا، الأردن، دول الخليج، أوروبا وأمريكا وبلدان أخرى، موضحاً أن بعض الصاغة قد لا يلتزمون بسعر العمولة لكن السعر العالمي للذهب يظل معلوماً ومعروفاً.
إضافةً إلى ما سبق، أوضح كيلاني أنَّ اهتمام المواطنين بشراء الذهب المشغول قد تراجع بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة خصوصاً، وذلك بسبب توجههم المتزايد نحو شراء الذهب غير المشغول، مثل السبائك، الليرات، والأونصات. هذا التحوّل يعود إلى إدراكهم أن بيع الذهب غير المشغول لاحقًا لا يسبب أي خسائر عند إعادة البيع، على عكس الذهب المشغول.
وفي الإطار ذاته، أشار كيلاني إلى أن عددًا كبيرًا من الناس راهنوا على انتهاء الدولار الأمريكي واعتقدوا أن الذهب سيواصل ارتفاعه بلا حدود، لكنه شدّد على أن لا شيء يرتفع دون انخفاض والعكس صحيح. واستشهد بالمواطنين الذين اشتروا أونصات ذهب مؤخرًا بسعر ٣١٥٠$، لينخفض سعر الأونصة بعد بضعة أيام إلى ٢٩٥٠$. وقد أوصى كيلاني الناس أن تنتظر وتشتري الذهب على انخفاض وليس على أي سعر متاح على الرغم من كونه الملاذ الآمن.
أمَّا على صعيد التحليل التِّقني، رجَّح كيلاني أنّه من المُفترض أن يُجري سعر الذهب خلال هذه السَّنة تصحيح أي correction وينخفض تقريباً بحدود ال ٥٠٠$ او ٦٠٠$، لكن الأخبار الاقتصادية (fundamental strategy) تقف ضدّه. وختم مُشدِّداً أنّ لا شيء يبقى على حاله ولن يستمر ارتفاع الذهب على هذه الوتيرة، ومثلما كان ارتفاع سعر الذَّهب غير طبيعي سيكون انخفاضه شديدًا إذا حصل انخفاض بسعره.
ختاماً، على الرغم من تحليق أسعار الذهب تحليقاً خياليًّا، لا يزال حتّى هذه اللحظة رمزاً للأمان وملاذاً للمستثمرين والدول، وهو عنصر أساسي في الأسواق الاقتصادية العالمية. لكن لا بدّ من السؤال، هل ممكن أن يكون هناك تغييرات أعمق بالنظام الاقتصادي العالمي انطلاقاً مما يحدث الآن؟