نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
هو سيناتور ولاية ويسكونسن جوزف مكارثي الذي أطلق حملته الشهيرة، عام 1950، ضد كل النخب التي دعت إلى معالجة الخلل في التركيبة الطبقية للمجتمع الأميركي.
التهمة القاتلة في ذلك الحين هي الشيوعية، لتُدعى هذه الحملة "الخوف الأحمر الثاني" Second Red Scare. الخوف الأحمر الأول ظهر بين عامي 1917 و1920، بعد الكلام عن حركة بولشفية تسعى إلى تقويض النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة.
الحملة طاولت المئات من السياسيين والعلماء والأكاديميين، إضافةً إلى الفنانين. من هؤلاء جورج مارشال، وزير الخارجية في عهد هاري ترومان، وصاحب المشروع الشهير لانتشال أوروبا من القاع الاقتصادي الذي سببته الحرب العالمية الثانية، وروبرت أوبنهايمر، أبو القنبلة النووية الأميركية، والكوميدي الفذ تشارلي شابلن، وقد أثار ذهول الروائي إرنست همنغواي الذي كتب مقالة عنه بعنوان "قهقهات الأنين"، وكان يود لو كان العنوان "قهقهات البكاء" لأن شابلن "ذهب إلى أقاصي القهر الذي ضرب الفئات العاملة في الغرب بعد دخول الآلة إلى الحضارة الحديثة".
الآن، دونالد ترامب، برتبة إمبراطور لا برتبة سيناتور، لتبدو الترامبية كوريثة للمكارثية.
الرئيس الأميركي يطارد الجامعات، كما مطاردة الساحرات، وفي مقدمتها جامعة هارفارد، الأكثر شهرة في العالم، لأنها أتاحت للأساتذة والطلاب رفع أصواتهم ضد أوديسه الخراب في غزة. هي الجامعة التي قال أحد رؤسائها، لورنس سامرز: "الله يصنع الأدمغة، ونحن نقوم بتشغيلها". البداية كانت باتهام رئيستها كلودين غاي باللاسامية لأنها لم تحطم رؤوس الذين أحدثوا "تلك الجلبة العبثية" في الجامعة بدعوتهم بنيامين نتنياهو إلى وقف طوفان الدم في القطاع.
معلقون كُثر استعادوا تفاصيل رواية الأميركي راي برادبري "فهرنهايت 451"، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي، حيث اتُّهم فيها السيناتور مكارثي بالإرهاب الثقافي. هذا ما يفعله دونالد ترامب الآن، حتى إنه راح يوعز إلى شركات الإنتاج الهوليوودية الكبرى بمقاطعة أي ممثل يُبدي مجرد انزعاجه مما يجري في الشرق الأوسط. مثلما يجري تنظيف الولايات المتحدة من الوجوه الأخرى (المهاجرين الملوّنين)، يقتضي تنظيفها أيضاً من الأدمغة، أو من القلوب، الأخرى.
تابعنا على مدى عقود احتضان الرؤساء الأميركيين للدولة العبرية. هاري ترومان اعتبر أن اعترافه بها، بعد نحو ربع ساعة من إعلان قيامها، بمثابة "هدية شخصية إلى يهوه". راح يصرخ: "أنا قوروش، أنا قوروش"، في استعادة مسرحية للإمبراطور الفارسي الذي أنقذ اليهود من السبي البابلي. مساعدات عسكرية ومالية، بالإضافة إلى المساعدات التكنولوجية، لتأمين تفوقها، وإلى حد الاستعداد للدخول في الزمن ما بعد التكنولوجي. لكننا لم نلاحظ أن أي رئيس أميركي حاول تدجين أفكار أساتذة وطلاب الجامعات لتكون في خدمة دولة أخرى، أو أمر بطرد أي شخص من البلاد، أكان عالماً أم كان سائق شاحنة، لأنه يدعم، ولو بكلامه، أي قضية أخرى. بذلك الصلف المروع، قال المغني كيد روك: "هل كان علينا أن نضع باقات الزهر على أضرحة الهنود الحمر؟"
ذئاب واشنطن وذئاب أورشليم. مثلما الهنود الحمر ليسوا من الكائنات البشرية، ما يستدعي إزالتهم من التراث الأميركي، وحتى من الميثولوجيا الأميركية، هكذا حال الفلسطينيين الذين يُفترض أن يفسحوا في المجال أمام تحقيق "الوعد الإلهي" بإقامة "إمبراطورية يهوه". إما الموت بالقنابل الأميركية أو الرحيل بالبواخر الأميركية. المثير هنا أن أحد معلقي "الفايننشال تايمز" لاحظ أن الرئيس الأميركي لن يجد أي صعوبة في البحث عن ممول، أو عن ممولين، لتغطية نفقات التهجير والإقامة.
أنصار ترامب يرون فيه "المسيح الأميركي". أما هو فقال: "لقد أخبرني الكثيرون أن الرب أنقذ حياتي ـ من محاولة الاغتيال ـ لسبب ما. هذا السبب هو إنقاذ بلادنا واستعادة عظمة أميركا". وزير الخارجية السابق مايك بومبيو رأى فيه "هدية الرب لإنقاذ اليهود"، بعدما قالت حاكمة ولاية ألاسكا سارة يالين، عام 2016، "إن الله تدخل في الانتخابات الأميركية لكي يفوز دونالد ترامب." بعد ذلك، يُفترض أن تُقرع الأجراس في إسرائيل. نسيت أن أجراس الكنائس لا تُقرع في الدولة اليهودية.
النائب الديمقراطي سوهاس سوبرامانيام، الذي رفع شعار "لا ملوك في أميركا"، رأى في ترامب "الرجل الذي يعود بنا إلى القرون الوسطى، وربما إلى العصر الحجري". أي أميركا إذا كانت، ومن أجل إسرائيل، تقفل الأفواه، وتقفل الرؤوس، بالشمع الأحمر؟ للمرة الأولى تنخفض نسبة التأييد له إلى 42%، مع اتهامه بالرجل الذي يلجأ إلى الغوغاء للانتقال بأميركا من الديمقراطية إلى التوتاليتارية، أو إلى الديكتاتورية (تحديدًا ديكتاتورية الرجل الواحد). "هكذا نرى أنفسنا أمام ذلك اليَهُوذا المعاصر الذي يعلّق أميركا على الخشبة"!
الكاهن الكاثوليكي إدوارد جويس يسأل ترامب، الذي في نظره "يفتقد كليًا الإحساس بالمعذبين في الأرض": "هل أنت مسيحي حقاً حين تقتصر همومك السياسية، والاقتصادية، على سحق الآخرين، فقط من أجل ذلك الشعار البوهيمي... عظمة أميركا؟"
هذا الشعار الذي يأمل أن يذهب إلى الولاية الثالثة، وربما إلى الولاية الرابعة، تمثّلاً بفرانكلين روزفلت. أركان اللوبي اليهودي لن يجدوا أفضل منه، الحاخام الأحمر الشعر، الذي يجعل الكرة الأرضية تدور حول الهيكل. ولكن ألم يقل فيلسوف التاريخ البريطاني آرنولد توينبي إن الهيكل كان دائماً يحمل البلوى إلى اليهود؟