ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
في زمنٍ صار فيه الإنترنت هو الحيّز الأوسع للعمل والابتكار، يتّجه الشباب اللبناني نحو الفضاء الرقمي بحثاً عن فرصٍ اقتصاديةٍ بديلة تُنقذهم من جمود السوق المحلي؛ فبين هجرةٍ قسريةٍ وواقعٍ معيشيٍّ خانقٍ، تفتح الوظائف الإلكترونيّة والعمل الحرّ عبر الإنترنت نافذةً جديدة للأمل، في بلدٍ تتراجع فيه البنى التحتيّة وتنهار فيه المؤسسات التقليديّة، لكنّ هذه الظاهرة ليست مجرد هروب من الواقع، بل تحوّل اجتماعي واقتصادي عميق قد يُعيد تعريف علاقة اللبنانيين بالعمل والإنتاج والدخل.
تُظهر تقارير الأمم المتحدة أنّ معدلات البطالة لدى الشباب اللبناني تجاوزت 47.8% عام 2022، مقابل 29.6% لبقية الفئات العمريّة، فيما انخفضت القدرة الشرائيّة بنسبة تفوق 80% منذ انهيار الليرة في 2019. في ظلّ هذه الأرقام القاتمة، وجد جيل جديد نفسه أمام خيارٍ واحد: الانتقال من "البحث عن وظيفة" إلى "صناعة الوظيفة".
النتيجة كانت واضحة: ارتفاع كبير في عدد اللبنانيين الذين يعملون في مجالات مثل التسويق الرقمي، التجارة الإلكترونيّة، التصميم الجرافيكي، البرمجة البسيطة، وصناعة المحتوى.
مصادر خاصة لموقع "الأفضل نيوز" أشارت إلى أنّ عدد العاملين اللبنانيين عبر المنصّات الرقميّة ازداد بنسبة 65% خلال السنتين الماضيتين، خصوصاً بعد توسّع المدفوعات الإلكترونيّة وتحويلات الخارج.
من اللافت أنّ هذا التحوّل الرقمي لم يكن ذكورياً فحسب. بل أظهرت استطلاعات داخل مبادرات خاصة بدعم من البنك الدولي أنّ 60% من المتدربين في مجالات التسويق الإلكتروني وتصميم المحتوى هنّ فتيات.
هؤلاء الشابات، اللواتي كنّ في السابق محصورات في وظائف مكتبيّة أو تعليميّة محدودة الدخل، أصبحن اليوم يعملن كمستقلّات على مشاريع إقليميّة وعالميّة، يجنين منها دخلاً بالدولار الأميركي من دون مغادرة منازلهنّ. هذا المشهد يغيّر المعادلة الاجتماعيّة: فبدل الاعتماد على الدولة أو ربّ العمل، يولد جيل من النساء المنتجِات المستقلّات اقتصادياً، ما يخلق توازناً جديداً داخل المجتمع اللبناني المحافظ.
وفق بيانات UNICEF و World Bank، يجري تدريب أكثر من 9,500 شاب وشابة لبنانيين ضمن برامج الاقتصاد الرقمي الحديثة، لتأهيلهم في مجالات مثل التسويق عبر وسائل التواصل، تطوير المواقع، وإدارة التجارة الإلكترونية.
ومع أن نسبة من هؤلاء تنتقل لاحقاً إلى وظائف في الخارج، إلا أن النسبة الأكبر تبقى في لبنان وتضخّ دخلاً جديداً بالعملات الصعبة في الدورة الاقتصاديّة المحليّة. فبحسب تقديرات اقتصاديّة حصل عليها "الأفضل نيوز"، يُتوقّع أن يُدخل هذا القطاع خلال السنوات الثلاث المقبلة ما يقارب 300 مليون دولار سنوياً من التحويلات والمشاريع الرقميّة الموجّهة من الخارج إلى الداخل.
لكن رغم المؤشرات الإيجابيّة، لا تزال الطريق مليئة بالعوائق. فالبنيّة التحتيّة الرقميّة غير مستقرّة، والانقطاع الكهربائي المتواصل يُعطّل الإنتاجيّة، فيما القوانين اللبنانيّة لم تُواكب بعد متطلبات العمل الحرّ عبر الإنترنت.
يُضاف إلى ذلك غياب التنظيم الضريبي الواضح للمستقلّين، وصعوبة تحصيل الأموال عبر المصارف المحليّة. كل ذلك يجعل من التحوّل الرقمي حركة شبابيّة فرديّة أكثر منها سياسة اقتصاديّة منظّمة.
لبنان اليوم يقف عند مفترقٍ حقيقي: إمّا أن يُدرك أنّ اقتصاده المستقبلي لن يكون في المصارف والعقارات فقط، بل في العقول الموصولة بالعالم عبر الشاشات، وإمّا أن يخسر ما تبقّى من شبابه المنتج.
لقد أثبت جيل الأزمات أنه لا ينتظر إصلاح الدولة ليبدأ، بل يخلق لنفسه طريقاً رقمياً نحو البقاء. الاقتصاد الرقمي لم يعُد رفاهيّة أو خياراً تجميلياً، بل خلاصاً اجتماعياً واقتصادياً يفتح الباب أمام إنتاج جديد، وكرامة جديدة، وربما مستقبلٍ مختلف للبنان.

alafdal-news
