نوال أبو حيدر - خاص الأفضل نيوز
يشكّل الإنفاق الأسري على الغذاء والصحة والتعليم الركائز الأساسية لاستقرار المجتمع ونموّه. وعندما تتعرّض الأسر لضغوط اقتصادية تدفعها إلى خفض هذا الإنفاق، فإن التداعيات لا تبقى محصورة في مستوى المعيشة الحالي، بل تمتدّ لتصيب بنية المجتمع ككل وتؤسس لدورات جديدة من الفقر وإعادة إنتاجه. وفي ظل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تشهدها دول عديدة، بات السؤال ملحًّا: إلى أي حدّ يمكن أن يقود تقلّص إنفاق الأسر إلى تهديد الأمن الغذائي وتدهور الصحة العامة وانقطاع الأطفال عن التعليم في لبنان؟
الأمن الغذائي... الحلقة الأضعف حين ينهار الدخل
تقول أوساط اجتماعية مطلعة لـ "الأفضل نيوز" إن "الغذاء هو أول بنود الإنفاق التي تُعاد هيكلتها عند تراجع قدرة الأسر الشرائية. لكن ما يبدو تخفيضًا تقنياً في الميزانية يتحوّل سريعاً إلى تهديد مباشر للأمن الغذائي.
فعندما تستبدل فئات واسعة من المجتمع الغذاء الطازج بالمعلّبات الأرخص، وتنتقل من الوجبات المتوازنة إلى نمط يعتمد على النشويات الرخيصة، تنشأ فجوات كبيرة في استهلاك البروتينات والفيتامينات الضرورية. ومع استمرار الأمر، تظهر مؤشرات سوء التغذية، وفقر الدم، وتراجع المناعة، ولا سيما لدى الأطفال والحوامل وكبار السن"، معتبرةً أنه "تتراكم التداعيات لتطال المجتمع بأسره، إذ يقلّ الإنتاج ويضعف الأداء الاقتصادي، وتزداد كلفة الرعاية الصحية على الدولة نتيجة الأمراض المرتبطة بسوء التغذية.
وهكذا يتحوّل تقلص الإنفاق الغذائي من خيار اقتصادي إلى قضية أمن قومي".
تدهور الصحة العامة... حين يصبح العلاج رفاهية
من هذا المنطلق توضح الأوساط نفسها أنه "في فترات الأزمات، غالباً ما يصبح الإنفاق الصحي بنداً مؤجلاً. هذا التأجيل يحمل في طياته مخاطر كبيرة، فالعديد من الأمراض تتفاقم بسبب التأخير، ما يؤدي إلى ارتفاع معدل الإعاقات المزمنة وتراجع جودة الحياة. كما يتزايد الاعتماد على الأدوية غير المضمونة، أو العلاجات المنزلية غير المثبتة، بدل الحصول على تشخيص طبي متخصص. ومع تراجع إمكانية إجراء الفحوص الدورية أو متابعة الأمراض المزمنة، مثل السكري والضغط والقلب، ترتفع نسبة المضاعفات الخطيرة التي كان يمكن تداركها.
أمّا على مستوى الصحة العامة، فتعتبر أن "ضعف قدرة الأسر على تحمّل كلفة الاستشفاء والدواء ينعكس مباشرة في زيادة الضغط على المستشفيات الحكومية، وتراجع مؤشرات الصحة الوطنية، وانتشار الأمراض المعدية، ما يجعل المجتمع أقل قدرة على مواجهة الأوبئة أو الطوارئ الصحية".
التعليم... البوابة التي تُغلق في وجه الأطفال عند الأزمات
من جهة أخرى، ترى الأوساط نفسها أنَّ "التعليم هو الاستثمار الأهمّ في رأس المال البشري، لكنّه غالباً ما يصبح أوّل ضحية للأزمات الاقتصادية. فمع ارتفاع كلف المدارس والكتب ووسائل النقل، تجد آلاف الأسر نفسها غير قادرة على الاستمرار في تأمين تعليم أطفالها. وتُظهر التجارب العالمية أن انخفاض الإنفاق الأسري على التعليم يقود إلى: ارتفاع معدلات التسرب المدرسي، ولاسيما الأطفال الأكبر سنًّا الذين يدفعون إلى سوق العمل، توسّع الفجوات التعليمية بين الطبقات الاجتماعية، تراجع المهارات اللغوية والرقمية والرياضية الأساسية، انخفاض القدرة المستقبلية على الحصول على وظائف لائقة. والأخطر من ذلك، أن الطفل الذي ينقطع عن التعليم يواجه خطراً مضاعفاً، كفقدان فرصة الانتقال الاجتماعي نحو طبقة أعلى وارتفاع احتمال بقائه فقيراً في سن الرشد".
دوامة الفقر… وكيف يُعاد إنتاجها عبر الأجيال
تحت هذا العنوان، تشرح الأوساط أنه "عندما تتراجع القدرة على الإنفاق على الغذاء والصحة والتعليم في الوقت نفسه، تدخل الأسر في دوامة فقر متعددة الأبعاد.
فهؤلاء الأطفال الذين يعانون اليوم سوء تغذية وحرماناً تعليميًّا، يصبحون غداً شباباً ذوي إمكانات محدودة، وقدرة إنتاجية منخفضة، ومهارات غير كافية لدخول سوق العمل التنافسي. وبالتالي، يصبح دخلهم محدوداً، ومعه قدرتهم على توفير احتياجات أسرهم لاحقاً، فيتكرر السيناريو نفسه مع الجيل التالي".
وتضيف: "هكذا، يتحوّل الفقر من حالة ظرفية إلى بنية اجتماعية مستدامة، تتكرّر فيها الحلقة: ضعف الدخل، خفض الإنفاق الأساسي، سوء تغذية وأمراض، تسرّب مدرسي، فرص عمل محدودة، دخل منخفض، وصولاً إلى الفقر عبر الأجيال".
بين الاقتصاد والإنسان… لا بدّ من مقاربة شاملة
في الخلاصة، تبيّن الوقائع أن تقلّص الإنفاق الأسري على الغذاء والصحة والتعليم ليس مجرّد نتيجة للأزمات، بل هو عامل أساسي يعمّقها ويطيل أمدها. ومن دون تدخلات حكومية جدّية تشمل دعم الغذاء الأساسي، وتمويل الرعاية الصحية الأولية، وتقديم منح تعليمية وحماية اجتماعية فعّالة، فإن المجتمعات ستواجه أجيالاً كاملة متضررة صحيًّا وتعليميًّا واقتصاديًّا.
الأمن الغذائي، والصحة العامة، والتعليم ليست بنوداً ثانوية يمكن تقليصها بلا ثمن، وركائز بقاء المجتمعات وركائز قدرتها على النهوض. وكل تراجع فيها اليوم، سيظهر أثره غداً مضاعفاً في معدلات الفقر وإعادة إنتاجه لسنوات طويلة.

alafdal-news
