د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
حتّى الآن، يشكّل الشّريط الحدودي الضّيق من الأرض الحرام (أي المحايدة أو المتنازع عليها) بين غزة ومصر، ونعني بذلك معبر فيلادلفيا، نقطة الخلاف الشائكة التي تمنع الدول التي دخلت على خط الوساطة بين الكيان الصهيوني النازي وحركة حماس، من التوصل إلى إنهاء المذبحة المفتوحة في غزة منذ 7 أكتوبر الماضي.
ففي حين يصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الفاشي بنيامين نتنياهو مرارًا وتكرارًا على أن القوات الإسرائيلية يجب أن تبقى في المعبر، ترفض حماس بالمقابل هذا الأمر. أما مصر، فترى أن وجود القوات الإسرائيلية في الممر ينتهك معاهدة السلام بين البلدين.
معبر فيلادلفيا: الأهمية الجغرافية والاستراتيجية
في الواقع، يمتد هذا الممر على طول الحدود بين غزة ومصر ـــ بطول يُقدّر بتسعة أميال (14.484 كيلومترًا) وعرض حوالي 100 متر ـــ يبدأ من أقصى الطرف الجنوبي لغزة وينتهي بالبحر الأبيض المتوسط. يشمل أيضًا معبر رفح الحدودي، الذي أصبح شريان الحياة للقطاع بعد عملية طوفان الأقصى وحملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، التي أعقبت ذلك. حيث تدفقت بعض المساعدات، فضلاً عن إجلاء المرضى والجرحى (لا سيما من هم في حالة حرجة) عبر المعبر، إلى أن سيطرت القوات الإسرائيلية عليه وأغلقته في مايو/أيار الماضي.
ويبرّر المسؤولون الصهاينة هذا الإغلاق المستمر للممر، باستخدامه من قبل حماس كقناة رئيسية لنقل الأسلحة والأموال إلى المقاومة. حيث وصفه نتنياهو بأنه "شريان الحياة لحماس الذي من خلاله يتسلّحون ويعيدون بناء أنفسهم".
بدورها نفت مصر مرارًا وتكرارًا هذه المزاعم، وشدّدت على أنها تحافظ على رقابة مشددة على الحدود وعملت على منع التهريب.
من يتحكم بممر فيلادلفيا؟
عمليًّا، حددت معاهدة السّلام لعام 1979 بين مصر وإسرائيل الحدود بينهما، وحدّت من المعدات والقوات العسكرية التي يمكن للدولتين نشرها على كلا الجانبين.
أكثر من ذلك، في العام 2005، جرى توقيع اتفاقية أخرى ركّزت بشكل خاص على الجزء من الحدود الذي يحد قطاع غزة.
وبموجبها سُمح لمصر بتعزيز دورياتها الحدودية، بينما انسحبت القوات الإسرائيلية من هذا القسم، فيما استلمت، السلطة الفلسطينية إدارة الحدود ومعها معبر رفح، تحت أعين مراقبي الاتحاد الأوروبي.
ومع تولّي حماس السلطة في القطاع في العام 2007، أي بعد عامين فقط، فرضت إسرائيل، بمساعدة مصر، حصارًا خانقًا غير مسبوق على غزة، أدى إلى تقييد حركة البضائع والأشخاص عبر الحدود بشدة. ثم تم تشديد هذا الحصار بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وفي مايو/أيار الفائت، شنّت قوات الاحتلال هجومًا دمويًا على المنطقة، أدّى إلى إعادة القوات الإسرائيلية احتلال ممرّ فيلادلفيا ومعبر رفح الحدودي.
ما هو موقف نتنياهو من الممر؟
خلال مؤتمر صحفي عقده الاثنين الماضي، أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى خريطة لقطاع غزّة مملوءة برموز ونقاط تمثل صواريخ وأكياس أموال ورجالًا مقنّعين. وقال: "محور الشر يحتاج إلى ممر فيلادلفيا، وللسبب ذاته علينا السيطرة عليه".
وبهذا، قدّم نتنياهو الحجة الأمنية سابقًا، لكنه أضاف أنه بعد اكتشاف جثث ست رهائن آخرين في غزة الأسبوع الماضي، فإن الانسحاب من الممر سيرسل رسالة إلى حماس: "اقتلوا المزيد من الرهائن، ستحصلون على المزيد من التنازلات".
لكن مهلاً. فهذه ليست كل الحكاية. في السرّ، قدّم فريق نتنياهو التفاوضي عرضًا بسحب القوات كجزء من اتفاق تدريجي، وفقًا لثلاثة مسؤولين حاليّين وسابقين من دول مشاركة في المحادثات (أفصحوا عن هذا العرض للصحافة الأمريكية)، ممّا أثار ارتباك الوسطاء خلال حركتهم الدبلوماسية. وقال المسؤولون، (الذين تحدّثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لمناقشة دبلوماسية حساسة) إن مفاوضًا إسرائيليًّا كبيرًا أخبر وسطاء أميركيين ومصريين وقطريين أن إسرائيل مستعدة لسحب جميع قواتها من الممر خلال المرحلة الثانية من الاتفاق المقترح.
ووفقًا لمسؤول إسرائيلي وآخر من دولة وسيطة تم إطلاعه على المحادثات، فإن رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي ديفيد بارنيا هو من نقل هذه الرسالة التي تناقضت مع حديث نتنياهو لوسائل الإعلام الدولية الأربعاء الماضي.
بالنسبة لجميع المراقبين، أن نتنياهو وبخلاف رسالته أعلاه، أكد مجدّدًا على أن الوجود الإسرائيلي في الممر أمر أساسي للأهداف الأمنية الإسرائيلية.
وقال إن شروط وقف إطلاق النار الدائم يجب أن تشمل وضعًا "لا يمكن فيه ثقب الممر"، وأشار إلى أنه منفتح على بدائل أخرى للوجود الأمني هناك.
وأضاف نتنياهو: "شخص ما يجب أن يكون هناك... أحضروا لي أي شخص سيظهر لنا بالفعل - ليس على الورق، ولا بالكلمات، وليس في شريحة - ولكن على أرض الواقع، يومًا بعد يوم، أسبوعًا بعد أسبوع، شهرًا بعد شهر، أنه يستطيع بالفعل منع تكرار ما حدث هناك من قبل".
وقال: "لا أرى أن ذلك يحدث الآن... وإلى أن يحدث ذلك، نحن هناك".
تباين المواقف الصهيونية حول أهمية الممر
في الحقيقة، اختلفت التقييمات الإسرائيلية لأهمية الممر. فهناك العديد من الشخصيات الصهيونية الأخرى داخل المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، تقلل من الحاجة إلى الوجود الإسرائيلي في فيلادلفيا، ودعوا إلى ضرورة إعطاء الأولوية لعودة الرهائن المتبقين. ولفت هؤلاء إلى أن مطالب نتنياهو تعكس محاولة لعرقلة اتفاق يمكن أن يضعفه سياسيًا.
بالمقابل، صوّت مجلس الوزراء الإسرائيلي لصالح استمرار الوجود العسكري داخل ممر فيلادلفيا، رغم اعتراضات وزير الدفاع يوآف غالانت.
بموازاة ذلك، أوضح إفرايم سنيه، العميد الإسرائيلي المتقاعد ونائب وزير الدفاع السابق من حزب العمل الذي يمثل يسار الوسط، أن "قرار مجلس الوزراء، يشير إلى أن نتنياهو غير مهتمّ بإعادة الرهائن إلى الوطن. ليس هناك تفسير آخر".
كيف يؤثر الممرّ في اتفاق وقف إطلاق النار؟
غني عن التّعريف أن محادثات وقف إطلاق النار بدأت وفشلت منذ عدة أشهر. ففي مايو/أيار، استؤنفت المحادثات مرة أخرى، مع إعلان الرئيس جو بايدن ما أسماه اقتراحًا إسرائيليًّا لعملية من ثلاث مراحل، تشمل إطلاق الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين خلال وقف إطلاق النار لمدة ستة أسابيع. وتمهّد في نهاية المطاف الطريق لإنهاء دائم للحرب. وآنذاك، اتهمت إدارة بايدن حماس بتعطيلها.
وفي أوائل يوليو/تموز الماضي، ومع تخلي حماس عن بعض مطالبها (لما فيه مصلحة الشعب الفلسطيني وتخفيف معاناتهم أمام الإجرام الصهيوني اللامحدود)، أعرب بايدن عن ثقته في قرب التوصل إلى اتفاق. غير أن نتنياهو ما لبث أن عمد إلى عرقلة الصفقة، بعدما أوعز للمفاوضين الإسرائيليين بتقديم متطلبات جديدة، بما في ذلك بقاء القوات الإسرائيلية في ممر فيلادلفيا وفي معبر رفح الحدودي.
على إثر ذلك، رفضت حماس المطالب الجديدة، ووصفتها بأنها غير مقبولة. وقال نائب رئيس حركة "حماس" في غزة، خليل الحية: "بدون انسحاب الاحتلال بشكل كامل من قطاع غزة، وخاصة من نتساريم وفيلادلفيا، لن يكون هناك اتفاق".
أما الإدارة الأمريكية، كالعادة، فآثرت مواجهة إسرائيل، بالرغم من إدراكها واعترافها بأنها المعرقل الرئيسي للصفقة. فاكتفى المتحدث باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، بالقول: إنه لن يدخل في نقاش مع نتنياهو بشأن تصريحاته الأخيرة حول الممر.
وقال كيربي إن الاتفاق الذي تم طرحه في شهر مايو والذي وافقت عليه إسرائيل، يشمل إبعاد جيشها من جميع المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، بما في ذلك تلك المحيطة بممر فيلادلفيا أو المتاخمة لها.
وماذا عن الموقف المصري؟
مع أن مصر لعبت دور الوسيط في محادثات وقف إطلاق النار في غزة، إلا أنها تعتبر الآن "جزءًا من المشكلة"، بحسب مسؤول مصري سابق مطلع على المفاوضات، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته لمناقشة الدبلوماسية الحساسة.
فمصر تشعر بالإهانة ممّا تعتبره جهدًا إسرائيليًّا لتغيير شروط معاهدة السلام من جانب واحد
وتعقيبًا على ذلك، قال إتش. إيه. هيلير (محلل أمني في الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي والمعهد الملكي للخدمات المتحدة) إن مصر لديها أيضًا مخاوفها الأمنية القومية بشأن الوجود الإسرائيلي على الحدود، بما في ذلك أن القوات الإسرائيلية هناك قد تدفع الفلسطينيين إلى سيناء.
من جهته، كشف المسؤول المصري السابق (المذكور أعلاه)، أنه عندما زار ممثلو جهاز الاستخبارات الإسرائيلي القاهرة قبل أسبوعين، أمضوا يومًا في الاجتماع مع رئيس المخابرات المصرية عباس كامل لمناقشة قضية ممر فيلادلفيا فقط، وليس البحث في تفاصيل تبادل الرهائن مقابل السجناء.
والنتيجة كانت رفض الوسطاء المصريين تمرير الاقتراح الإسرائيلي الأخير إلى حماس، لأنهم اعترضوا بشدة على البنود المتعلقة بالحدود.
في المحصّلة، من المؤسف القول إنّه، في حين يتنافس الغرب والولايات المتحدة على تقديم الأسلحة الفتّاكة لإسرائيل ومساعدتها عسكريًّا وماديًّا، والدفاع عن جرائمها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، نجد أن القاهرة تتفاخر بأنها قطعت شريان الحياة عن أهل غزة في الماضي وحاليًا. والأدهى من ذلك أنه لم يغضبها رؤية أوصال الأطفال المقطّعة على مرأى الشاشات وقد مزّقتهم قذائف الموت الأمريكية.
بل المخزي أن جلّ ما أثار حفيظتها هو تصريحات نتنياهو الذي اتهمها بأنها غضّت الطرف عن تهريب الأسلحة عبر الحدود فردّت وكأنها تعطي لنفسها صكّ براءة، مؤكدة (أي مصر) أنها دمّرت في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي على مدى العقد الماضي أكثر من 1500 نفق تهريب، وطهّرت مدينة بأكملها لإنشاء منطقة عازلة عسكرية بعرض أكثر من ثلاثة أميال على الجانب المصري من الحدود.