محمد شمس الدين - خاص الأفضل نيوز
في صباح 7 تشرين الأول 2023، كان يحيى السنوار يظن أن عمليته ستقود إلى حرب لا تتجاوز بضعة أشهر. تصوّر أن إسرائيل ستنزف، وأن العالم سيدفع نحو تسوية سياسية تنقذ غزة وتعيد للقضية الفلسطينية زخمها. لكن ما لم يحسب حسابه هو الظرف الدولي: الحرب الروسية–الأوكرانية، عسكرة الغرب، والاستعداد النفسي والإعلامي لمعركة كبرى قد تمتد إلى حرب عالمية ثالثة. هذا الواقع أطلق يد إسرائيل أكثر من أي وقت مضى، وحوّل غزة إلى نقطة انطلاق لمشروع أوسع بكثير.
واشنطن رأت في الحرب فرصة استراتيجية:
• إغلاق ملف “غرب آسيا” للتفرغ للصراع مع روسيا والصين.
• تهيئة الرأي العام العالمي للتعايش مع الدم والمجازر.
• تجربة أنماط جديدة من الحروب، ظهرت لاحقاً في المواجهة مع إيران.
• إرسال رسائل قوة واضحة إلى موسكو وبكين.
انهيار حدود سايكس–بيكو
اتفاقية سايكس–بيكو التي رسمت حدود الشرق الأوسط قبل قرن، كانت قائمة على تقسيم النفوذ بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي. لكن الحرب الممتدة منذ عامين كشفت أن تلك الحدود لم تعد قائمة إلا على الورق.
• غزة لم تعد جيباً فلسطينياً، بل ساحة صراع إقليمي ودولي.
• جنوب لبنان تحول إلى جبهة مفتوحة مع إسرائيل، حيث الاغتيالات النوعية لقادة “حزب الله” كسرت قواعد اللعبة القديمة.
• سوريا عاشت أكبر التحولات مع سقوط نظام بشار الأسد وصعود مرحلة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، وهو ما اعتُبر الضربة القاصمة للمحور الإيراني.
• العراق يتأرجح اليوم بين نفوذ أميركي مباشر وضغوط خليجية، بعدما تراجعت قدرة طهران على فرض إيقاعها.
بهذا، يمكن القول إن الشرق الأوسط القُطري، الذي أرادته سايكس–بيكو، يتهاوى أمام خريطة جديدة تُرسم بالنار والاغتيالات.
إسرائيل كشرطي للمنطقة
الحرب جعلت إسرائيل أكثر من مجرد دولة تدافع عن نفسها؛ حولتها إلى شرطي المنطقة بتفويض أميركي. عمليات الاغتيال التي طالت قيادات حماس في غزة، وقيادات بارزة من حزب الله في لبنان وسوريا، لم تكن مجرد عمليات تكتيكية، بل إعلان عن دور جديد.
المبعوث الأميركي توم باراك قالها صراحة خلال زيارته لبيروت في صيف 2024:
“إسرائيل لا تدافع فقط عن نفسها، بل عن النظام الإقليمي الذي نحتاجه جميعاً للاستقرار.” أما مورغان أورتاغوس فأكدت أن دعم واشنطن لتل أبيب هو “استثمار طويل الأمد في قوة تحمي المصالح الأميركية في المنطقة.”
الحرب الإسرائيلية–الإيرانية التي اندلعت في حزيران 2025 جسدت هذا الدور. فإسرائيل لم تكتفِ بالرد، بل بادرت إلى هجمات استراتيجية على منشآت داخل إيران، وأرسلت رسالة للعالم أن أي مشروع إقليمي يناقض مصالح واشنطن لن يُسمح له بالعيش.
المحور الإيراني تحت الضربات
على مدى عقدين، روّجت طهران لفكرة “محور المقاومة” الممتد من غزة إلى صنعاء. لكن مسار الأحداث منذ 7 تشرين الأول أثبت أن هذا المحور يتفكك:
• حماس خسرت بنيتها التنظيمية واللوجستية، وقياداتها باتوا أهدافاً يومية للاغتيال.
• حزب الله يتلقى الضربات تحت ضغط غير مسبوق، وعاجز عن فتح مواجهة شاملة.
• إيران نفسها باتت في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، ما أضعف قدرتها على إدارة حلفائها.
• سوريا خرجت عملياً من المعادلة بعد سقوط النظام.
المحور الذي أرادته طهران مظلة استراتيجية، صار عبئاً يتهاوى تحت الضربات الإسرائيلية والأميركية المتكاملة.
نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى
في خضم هذه التحولات، أعاد بنيامين نتنياهو إحياء فكرة “إسرائيل الكبرى”، الرجل قالها في أكثر من خطاب: “حدودنا لا ترسمها الخرائط القديمة، بل قوتنا. إسرائيل اليوم ليست فقط دولة صغيرة محاصرة، بل قوة إقليمية عظمى تمتد من البحر إلى النهر.”
في شباط 2024، أكد نتنياهو: “إسرائيل لن تعود إلى الوراء. الشرق الأوسط الجديد يُبنى اليوم، ونحن من يرسم ملامحه.” هذا الكلام لم يعد مجرد دعاية انتخابية، بل رؤية استراتيجية تُترجم على الأرض عبر:
• تفكيك الدول العربية إلى كيانات ضعيفة.
• تحويل الحدود إلى خطوط أمنية–عسكرية متحركة.
• فرض السيطرة على ممرات الغاز والطاقة في شرق المتوسط.
• تدجين الدول العربية لشراكة علنية مع اسرائيل.
هكذا يتحقق تدريجياً حلم “إسرائيل الكبرى”، ليس كشعار توراتي فقط، بل كمشروع سياسي واقعي.
لبنان… خط التماس الأخير
يبقى لبنان الساحة الأكثر حساسية في مشهد انهيار سايكس–بيكو وصعود حلم إسرائيل الكبرى. فالجنوب تحوّل إلى جبهة استنزاف مفتوحة، حيث الطائرات المسيّرة لا تغادر الأجواء، والاغتيالات النوعية تطال قادة ميدانيين من “حزب الله”، في محاولة واضحة لتفكيك البنية القيادية للحزب وإرباكه أمام جمهوره. المقاومة تجد نفسها أمام معادلة قاسية: التمسك بسلاحها كعنوان وجودي، أو الانجرار إلى مواجهة شاملة قد تطيح بالبلد كله.
وفي موازاة المعركة العسكرية، يعيش مجلس الوزراء اللبناني تحت ضغط داخلي وخارجي غير مسبوق. الجلسات تتحول إلى ساحة تجاذب بين من يطالب بانتزاع القرار السيادي، ومن يخشى أن يؤدي أي انقسام جديد إلى انهيار المؤسسات المتبقية. وهكذا يصبح لبنان خط التماس الأخير بين مشروع يريد تصفية ما تبقى من معادلة الردع، وبين مقاومة تصارع كي لا تفقد ما تعتبره مبرر وجودها.
سقوط النظام السوري: الضربة الكبرى
لا يمكن فهم حجم التحول من دون التوقف عند سقوط نظام الأسد. هذا الحدث لم يكن مجرد انتقال للسلطة، بل إعلان رسمي عن انهيار ركيزة أساسية من ركائز المحور الإيراني. دمشق، التي كانت شريان التواصل بين طهران وحزب الله، خرجت من المعادلة.
الرئيس الانتقالي أحمد الشرع يمثل بداية مرحلة جديدة: سوريا التي كانت معقلاً لإيران باتت اليوم ساحة مفتوحة أمام إعادة التوازنات الإقليمية. وهنا يتضح حجم الإنجاز الإسرائيلي–الأميركي: ضرب قلب المحور الإيراني من الداخل.
بين سايكس–بيكو وإسرائيل الكبرى
اليوم يقف الشرق الأوسط بين زمنين:
• زمن سايكس–بيكو الذي رسم حدود دول قومية ضعيفة.
• وزمن إسرائيل الكبرى التي تفرض حدودها بالنار والتوسع والاغتيالات.
لكن التجربة التاريخية تُحذّر: مشاريع الهيمنة لا تدوم. كما سقطت إمبراطوريات أكبر من إسرائيل، قد تفتح دورة التاريخ المقبلة الباب أمام مقاومات جديدة، قد تأتي من حيث لا يتوقع أحد.
سؤال المستقبل
بعد عامين من الحرب، الصورة واضحة: حدود سايكس–بيكو تسقط، المحور الإيراني يتراجع، وإسرائيل تتقدم كقوة شبه مطلقة. نتنياهو يعلنها بلا مواربة: إسرائيل ترسم الشرق الأوسط الجديد.
لكن السؤال يبقى مفتوحاً:
هل ينجح مشروع “إسرائيل الكبرى” في أن يصبح أمراً واقعاً، أم أن شعوب المنطقة ستفاجئ الجميع بموجة مقاومة تعيد قلب الطاولة كما فعلت مراراً في الماضي؟