د.علي ناصر ناصر - خاص الأفضل نيوز
تمهيد
تبنى الاستراتيجيات وفقًا للأحداث الكبرى وتتغير وفقًا لها، وتنتج عنها أيضا أحداث كبرى ستفرز تغييرات بالنظم والتحالفات تطال البناء الإقليمي والدولي. نفذت إسرائيل عملية قصف جوي على مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق بتاريخ 1 إبريل/ نيسان، أدت إلى استشهاد 6 أشخاص من قادة الحرس الثوري الإيراني وتدمير مقر القنصلية الذي يعتبر أرضا إيرانية، وبالتالي صنف الاعتداء الإسرائيلي عملا عدائيا وانتهاكا للسيادة الإيرانية وأصبح السكوت الإيراني ضعفا وتراجعا فكان لا بد من تصميم الرد المناسب والمتماثل وفق حسابات سياسية معقدة ترتبط بالصراع الدولي والتوازنات الإقليمية. وأعلمت طهران الدول الرئيسية في المنطقة بأنها تحضر لرد عسكري جوي قبل وقوعه ب 72 ساعة. تنتقل منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة جديدة من مستوى قواعد الاشتباك ستكون تداعياته استراتيجية بالكامل والعوامل التي ستتأثر مباشرة بالرد الإيراني تتعلق ب "دولة إسرائيل" نفسها، والاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، إضافة إلى التوازن القوى الإقليمي.
انكشاف وتضرر الردع الإسرائيلي
تبني إسرائيل فكرة وفلسفة وجودها على أن قوتها الرئيسية تنبع من قدرتها على التصدي وردع ومواجهة أي "اعتداء" أو هجوم خارجي تقوم به دولة واحدة أو عدة دول في آن واحد، وتقدم نفسها وصناعتها العسكرية وقدراتها الدفاعية بالأكثر تطوراً في العالم بحيث يصنف الجيش الإسرائيلي في المرتبة 17 عالمياً وتتجاوز ميزانيته السنوية 24 مليار دولار أمريكي وتحصل على مساعدات عسكرية سنوياً من الولايات المتحدة 3.8 مليار دولار.
ظهر الانكشاف الإسرائيلي بداية في عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حيث أخفق هذا الجيش في توقع هجوم المقاومة الفلسطينية والتعامل معه ولم تنفع كل التكنولوجيا التي توفرها له الولايات المتحدة. وبعد أكثر من 6 أشهر من حربه على غزة والمجازر التي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني وفي عملية متوقعة ومعروفة التوقيت احتاجت "دولة إسرائيل" إلى مساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من أجل منع وصول المسيرات والصواريخ الإيرانية التي أطلقت في 13 أبريل/نيسان 2024 من إيران على الكيان الصهيوني رداً على اغتيال قادة من الحرس الثوري في دمشق وفي غضون سبع ساعات تقريباً أنفق ما قيمته مليار دولار في محاولة التصدي للعملية الإيرانية واستحضرت الولايات المتحدة بوارجها وسفنها العسكرية في هذه العملية.
لم تقدر إسرائيل على حماية نفسها لا من خارج الحدود بفعل الرد الإيراني، ولا من داخله بفعل عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر وأصبحت أكثر إنكشافاً أمنياً وعسكرياً وسيخلق ذلك عبئاً على الولايات المتحدة وحلفائها في حمايتها أمنياً وعسكرياً، وستكون كلفة تآكل الردع الإسرائيلي باهظة ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط بل على المستوى السياسي والعسكري والاستراتيجي وستدفع بالغرب إلى مقاربة الصراع في المنطقة بمستوى استراتيجي ستتحدد ملامحه بكيفية تطور الصراع في قطاع غزة. والسؤال المطروح هل تستحق "دولة إسرائيل" تحمل هذه الأعباء والأكلاف من قبل الغرب والولايات المتحدة أم أنها أصبحت عبئاً والتخلي عنها أقل كلفة؟
إيران والردع الاستراتيجي
بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 أغلقت السفارة الإسرائيلية وسلمت مفاتيحها إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وانتقلت إيران من دولة حليفة "لدولة إسرائيل" والولايات المتحدة إلى النقيض تماماً إذ تحولت إلى دولة تتبنى القضية الفلسطينية وتعمل على دعم الفصائل الفلسطينية وتؤمن باستراتيجية القوة لتحرير فلسطين وتدعم بشكل بارز حركة حماس وكافة الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة.
بدأت إسرائيل منذ عام 2010 باستهداف المنشآت النووية الإيرانية والعلماء النوويين الإيرانيين وتصاعدت التوترات وبدأت حرب خفية بين الجانبين وقامت إسرائيل باستهداف عناصر الحرس الثوري في سوريا من دون أن تملك إيران إي مسوغ قانوني للرد مع تبني مفهوم "الصبر الاسترايجي" للتعامل مع الهجمات الإسرائيلية. بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر زادت البيئة الأمنية صعوبة وضغطاً وقامت إسرائيل بقصف القنصلية الإيرانية واغتيال 7 من قادة الحرس الثوري الإيراني. شكلت الضربة نقطة تحول استراتيجي بالنسبة لإيران والتي لم تكن خياراتها كثيرة إذا كانت بين خيارين لا ثالث لهما؛ إما الاستمرار بتبني مفهوم " الصبر الاستراتيجي" كاستراتيجية وهو ما سيظهر ضعف ووهن القوة والسيادة الإيرانية وسيفتح الباب على انكشاف الساحة الإيرانية، إما الانتقال إلى مستوى استراتيجي آخر في التعامل مع الاعتداء الإسرائيلي المحمي أمريكياً فاختارت إيران التخلي عن صبرها الاستراتيجي بعد 14 عاما من تبنيه والانتقال إلى مفهوم آخر هو "الردع الاستراتيجي" وتعاملت معه بشكل فوري وعملي، ونفذت عملية رد عبر مسيرات وصواريخ انطلقت لأول مرة من الأراضي الإيرانية مباشرة، وكشفت إيران من خلال شكل الرد وكيفية إظهاره عن تحول استراتيجي في تعاملها ليس اتجاه إسرائيل فقط بل اتجاه الولايات المتحدة الغرب والمنطقة عموماً، وقبل تنفيذ الرد بساعات قامت إيران باحتجاز سفينة تجارية مرتبطة بإسرائيل في مضيق هرمز في عملية لها دلالات جيوبولوتيكيا.
التداعيات على المنطقة
تتوزع القوى الفاعلة في الشرق الأوسط على قوى رئيسية تشمل ثلاث دول هي إيران، تركيا، "إسرائيل"، والعرب الذين يتوزعون عدة دول، والفاعلية متفاوتة وتتوزع بين السياسة والاقتصاد والموقع الجغرافي، والصعود والهبوط بالقوة والفاعلية مرتبط بعوامل داخلية تتعلق بالدول نفسها وعوامل خارجية تنشأ بطبيعة التحالفات الإقليمية والتغييرات الدولية وانعكاسها على الإقليم
وتُبرز التدخلات الخارجية في المنطقة الفاعلين الدوليين من خارجها حيث تتقدمهم الولايات المتحدة التي تنتشر قواعدها العسكرية في معظم دول الشرق الأوسط وأهمها تركيا وإسرائيل وبعض الدول العربية التي تتشارك معها حلف استراتيجي واضح، والفاعل الدولي الآخر هي روسيا التي تنشر قواعد لها في سوريا وتشارك إيران في حلف يتقدم ليصبح استراتيجيا.
ستؤدي فاعلية الرد الإيراني وكشف الردع الإسرائيلي إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية حيث النتائج السياسية تضعف من الأسهم الأمريكية وتؤشر إلى تقدم القوى المناهضة للسياسة الأمريكية و وتدفع نحو تفكك الحلف الأمريكي وتلاشي مشاريعها وابتعاد وكلائها من الدول والكيانات عنها. والرد الإيراني ينتظر تشكيل تراكمات سياسية وأمنية من المفترض أن تدفع بالصين وروسيا إلى التعامل معها باعتبارها فرصة لإخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط.
استشراف المستقبل
أظهرت الحالة السياسية والأمنية التي نشأت منذ طوفان الأقصى وصولا للرد الإيراني إلى عدم قدرة إسرائيل على حماية نفسها ويظهر المأزق الغربي- بالانكشاف الأمني للكيان الصهيوني- في بناء استرتيجي لم يتكون بعد. فرض تعامل الولايات المتحدة مع الرد الإيراني على إسرائيل بمشاركة فرنسا وبريطانيا إلى الاستنتاج بأن خروج القواعد العسكرية الأمريكية من المنطقة أصبح شرطا ضروريا لتحرير القدس وكامل فلسطين. يتيح الرد الإيراني لروسيا فرصة لإعادة قراءة المنطقة وتشكيل السياسة الروسية وفق استراتيجيات أكثر عمقا في مقاربة مشاكل المنطقة وهي فرصة لمواجهة التحديات الأمريكية والأوروبية. المأزق الإسرائيلي في عدم الرد هو أقل في حالة الرد وهو نفسه المأزق الأمريكي. كان يمكن للرد الإيراني أن يتجاوز مدة الساعات التي حصل فيها ويصبح أياما وأن يضاعف عدد الصواريخ والمسيرات، لكن العملية الإيرانية بالشكل التي نفذت فيه وطابعها الإيراني الكلي تثبت جدية التحول الاستراتيجي الذي حدث في المنطقة.