د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
منذ فجر نهار الجمعة الفائت، انشغل العالم بأسره، بفكّ لغز الردّ الإسرائيلي الأخير على الأراضي الإيرانية من حيث فاعليته ونتائجه. فلغاية الآن لم يكشف أحد من المعنيين به (أي إسرائيل، إيران والولايات المتحدة) عن حقيقة ما جرى. حتى في الكيان الغاصب حيث تشتهر قياداته السياسية والعسكرية والأمنية بالثرثرة المشهودة، كان الصمتّ سيدّ الموقف، وهذا إن دل على شيء، إنما يدلّ على تغيير ملحوظ في استراتيجية الردع الإسرائيلية.
وما هي استراتيجية الردع الجديدة التي انتهجتها إسرائيل مع إيران؟ وما هي أسباب التكتم الصهيوني على ضرب أصفهان؟
في الواقع، تصرّ طهران على عدم حدوث أي هجوم يعتّد به على أراضيها. بل إنها تشبّه ما حصل بالألعاب التي يتسلى بها الأطفال الإيرانيين (والكلام يعود لوزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان).
بالمقابل يفسرّ صحافيون أمريكيون مقربون من مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمر بالآتي: إحدى قواعد احتواء الأزمة هي "إبقاء فمك مغلقًا"، مؤكدين أن الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، كانوا يقومون بعمل جيد جدًا يوم الجمعة بعد الضربات الإسرائيلية بالقرب من مدينة أصفهان الإيرانية. فبرأيهم ربما كان الصمت هو الرسالة الحقيقية - رغبة جميع الأطراف في منع التصعيد بالقول أو الفعل.
علاوة على ذلك، بالنسبة لواشنطن، خلال الأسبوع الماضي، رضخت تل أبيب للضغوط الأمريكية، واتخذت قرارًا مدروسًا لإعادة تشكيل استراتيجيتها بمهارة لردع إيران وحلفائها أي (حماس وحزب الله). فمن المعروف أن الردع الإسرائيلي كان يدور في الماضي عادة حول الاستخدام المكثف للقوة العسكرية الهجومية، التي تعتمد الضربات القوية، وبالتالي السعي إلى فرض الامتثال للاحتلال من خلال الإكراه.
لكن هذه المرة كانت الاستراتيجية الإسرائيلية مختلفة. فعندما أطلقت إيران وابلا من الصواريخ والطائرات بدون طيار ردًا على استهداف قنصليتها في 1 نيسان الحالي بدمشق، استعمل جيش الاحتلال نظام الدفاع الجوي لديه "القبة الحديدية"، كما تلقى مساعدة كبيرة وحاسمة من الحلفاء لامتصاص الضربة.
وبعيدًا عن المزاعم الإسرائيلية بأن التدمير المبلغ عنه ل 99 % من الذخائر الإيرانية القادمة، كان بمثابة عرض مذهل للدفاع الصاروخي الإسرائيلي والأطلسي والأمريكي وحتى العربي، إلا أن بعض الإسرائيليين، أرادوا الرد على الفور بوابل كبير من الصواريخ والقذائف على طهران. لكن ضغوط الرئيس الأمريكي جو بايدن دفعت إسرائيل إلى انتهاج معادلة جديدة قوامها: التريث والانتظار.
فحوى الرسائل الإسرائيلية من ردها الأخير على إيران؟
علميًا، وكما كان متوقعًا من قبل غالبية الخبراء والمراقبين، جاء الرد الإسرائيلي في وقت مبكر من يوم الجمعة، صامتًا وباهتًا. إذ تشير التقارير الإسرائيلية، إلى أن سلاح الجو لديها هاجم موقعًا بالقرب من بعض أكبر المنشآت النووية الإيرانية.
صحيح أن هذه المنشآت، لم تتضرر وفقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن من وجهة نظر إسرائيل، فأنها بعثت برسالة مفادها أن بإمكانها اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية وضرب أهداف استراتيجية عندما تختار ذلك. بمعنى أوضح أردات إسرائيل أن يكون لها الكلمة الأخيرة في هذا التبادل، وبالتالي يعتبر الكيان الغاصب، أنه حافظ على ما يسميه الاستراتيجيون "هيمنة التصعيد".
على المقلب الآخر، بدا واضحا للعالم أن إيران متلزمة بالتهدئة والدفاع عن نفسها في آن، هو ما كشفه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجمعة، بعد محادثات مع مسؤولين في طهران، حيث أعلن أن "إيران لا تريد تصعيدا". أكثر من ذلك سخرت التصريحات الإيرانية العلنية من العمل الإسرائيلي المحدود.
علاقة الردّ الإسرائيلي الباهت بالتحالف الدفاع الجوي المستجد عن أراضيها؟
لا يمكن إنكار ان إسرائيل تتصرف حاليا كزعيمة تحالف إقليمي ضد إيران. وانطلاقا من هذه النقطة، ظهرت تل أبيب ومن خلال ردها الباهت والمدروس على غير العادة، وكأنها تزن مصالح حلفائها (خصوصا العرب منهم) في هذا التحالف - الذين قدموا جميعهم مساعدة هادئة في التصدي للهجوم الإيراني على المنشآت العسكرية الصهيونية. أي أن الكيان يتطلع للمستقبل المنظور، وهذا بالتالي من شأنه أن يحدث نقلة نوعية بالنسبة لإسرائيل.
فبدلا من أن ترى نفسها كدولة يهودية محاصرة تقاتل وحدها من أجل بقائها ضد كتيبة من الأعداء العرب والمسلمين، أصبحت إسرائيل محاطة بحلفاء مخلصين لا يتوانون للدفاع عن أمنها وسمائها حتى على حساب مصالح دولهم وشعوبهم، ويأتي على رأس القائمة ، كما هو الحال دائما ، الولايات المتحدة.
من هنا، تعول إسرائيل على هذا التحالف الدفاعي، لبناء شكل جديد للشرق الأوسط. لكنها في الوقت الراهن تحاذر المجاهرة، بهذه الصداقة الناضجة غير المعلنة بين إسرائيل وخصومها السابقين في المنطقة.
ليس هذا فحسب، وفي أبهى مظاهر النفاق والازدواجية، اكتسبت إسرائيل بعد الهجوم الصاروخي الإيراني دور الضحية (بنظر الغرب خصوصا مجموعة الدول الصناعية السبع المتقدمة) بالرغم من الإبادة الجماعية التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها بغزة.
في المحصلة قد يبدو هذا المفهوم الإسرائيلي الصارم للردع مقنعا لها. ولكن عند مراقبة النهج الذي تنتهجه إسرائيل في التعامل مع الأمن منذ ما يقرب من 45 عاماً، نرى أن نتائجه كانت مختلفة مع كل متغير في القوة والقدرات العسكرية للفاعلين المحليين الإقليميين المناهضين لإسرائيل في المنطقة.
فالمقاومة في لبنان في أعقاب تحرير الجنوب في أيار 2000، وحرب تموز 2006، نجحت في نسف الكثير من المفاهيم الأمنية الإسرائيلية. ولا شك أن إيران أيضا، و بعد تخليها عن :"الصبر الاستراتيجي"، باتت في موقع آخر، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: هل بمقدور هذا التحالف الذي تتغنى به إسرائيل وكلّفها مع حلفائها (1.1 مليار دولار ) في أربع ساعات فقط (مدة الهجوم الإيراني على إسرائيل)، الاستمرار بالقوة والزخم نفسه، مع استخدام إيران وسائل رخيصة وفعالة نوعا ما بمواجهة الكيان؟ وماذا لو لجأت طهران عند تعرضها لأي هجوم إسرائيلي مستقبلا، إلى الردّ بمضاعفة أعداد مسيراتها وصواريخها أقله بخمسة أضعاف؟ حينها لنترك الجواب إلى ذلك اليوم الذي ربما سيغير وجه إسرائيل.