ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
في بلدٍ يترنّح على وقع الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، يبقى الجيش اللبناني المؤسسة الوحيدة التي ما زال اللبنانيون يلتفون حولها بوصفها الضامن الأخير للاستقرار. لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: ما هو الدور الحقيقي الذي يقوم به الجيش وسط الانهيارات المتلاحقة؟ هل يقتصر على فضّ النزاعات المحليّة واحتواء الاشتباكات، أم أنّه يتحضّر ليكون القوة الحاميّة للشعب والأرض في وجه التحديات الإقليميّة والدوليّة؟
منذ اندلاع الأزمات المتراكمة خلال السنوات الماضية، لعب الجيش دوراً محورياً في منع الفوضى الشاملة. فالتدخلات التي نفّذها في مناطق لبنانية مختلفة، أثبتت أنّه القادر على منع انزلاق البلاد إلى حرب أهليّة جديدة. في الوقت نفسه، لا يخفى أنّ الجيش يواجه ضغوطاً هائلة نتيجة محدودية موارده، وانخفاض قيمة رواتب عناصره بفعل الانهيار المالي، وتراجع جهوزيته التقنيّة واللوجستيّة.
أكّد العميد المتقاعد مارون خريش لـ"الأفضل نيوز" أنّ: "الجيش اللبناني اليوم يقف أمام مهمة مزدوجة: فهو من جهة يسعى إلى فضّ النزاعات الداخلية وحماية المدنيين من تبعات أي صدام مسلّح، ومن جهة أخرى يتحمّل مسؤولية ضبط الحدود ومواجهة أي اختراقات أمنية أو عسكريّة."
من الناحية العملية، تكرّرت مشاهد انتشار وحدات الجيش في أحياء شهدت اشتباكات مسلّحة، حيث تدخلت لمنع تمدّد الفوضى واحتواء الموقف سريعاً.
هذه المهمة التي تُعرف بـ«فضّ النزاع» أصبحت شبه يومية في ظل التوترات الطائفية والسياسية والاجتماعية.
ضابط متقاعد في لواء المشاة شدّد لـ"الأفضل نيوز" أنّ: "الجيش ليس جهاز شرطة فحسب، بل مؤسسة دفاعيّة وطنيّة. حصر دوره في فضّ النزاعات الداخليّة يحوّله إلى مجرّد صمّام أمان مرحلي، بينما هو مؤهَّل دستورياً لحماية السيادة والدفاع عن الأرض."
الدستور اللبناني واضح في تكليف الجيش ثلاث مهام أساسية: الدفاع عن الوطن ضد أي عدوان خارجي، الحفاظ على الأمن الداخلي، وحماية الشعب وممتلكاته. غير أنّ الأزمة الراهنة تجعل من تنفيذ هذه المهام تحدياً كبيراً، فالجيش يعمل بقدرات محدودة، فيما المطلوب منه أن يغطي مساحة واسعة من الأزمات الممتدة من الداخل إلى الحدود.
وفي هذا السياق، تقول مصادر متابعة إنّ خطط الحكومة التي تحدّثت عن حصر السلاح بيد الدولة لا يمكن تنفيذها من دون دور محوري للجيش. لكنّ هذا الدور يحتاج إلى دعم سياسي داخلي وتوافق وطني قبل أي قرار عملي، وإلى دعم مالي ولوجستي من الخارج يتيح له مواجهة تحديات أكبر.
لا يخفى أنّ الأزمة الاقتصاديّة انعكست بقسوة على المؤسسة العسكريّة؛ فمعظم ميزانية الجيش تُصرف اليوم على الرواتب والخدمات التشغيليّّة، بينما تتراجع القدرة على شراء عتاد أو تحديث المعدات. وعلى الرغم من المساعدات العينية واللوجستية التي حصل عليها من دول غربية وعربية، يبقى الجيش بحاجة إلى خطة دعم مستدامة تضمن جهوزيته في المدى البعيد.
أشار خريش لـ"الأفضل نيوز" إلى أنّ: "المساعدات الخارجيّة لا تكفي وحدها، المطلوب أن يقرّر اللبنانيون أنفسهم إعطاء الأولوية لتقوية الجيش وتوفير الدعم له، لأنّ أي مؤسسة أخرى لن تستطيع أن تحلّ مكانه في حماية الأرض".
المعادلة الأكثر تعقيداً تبقى في البُعد السياسي. فالجيش، مهما امتلك من عتاد وقدرات، لا يستطيع فرض حلول على الأرض من دون غطاء سياسي جامع. وهنا يكمن التحدي: أي خطوة نحو فرض سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية ستصطدم بحساسيات داخليّة وتوازنات إقليميّة دقيقة.
محلّلون استراتيجيون يرون أنّ الجيش يفضّل دائماً لعب دور «الوسيط الحامي» بدلاً من أن يتحوّل إلى طرف في نزاع داخلي، وهذا ما يفسّر خطاب قيادته القائم على التمسك بالحياد، والابتعاد عن الاستقطابات السياسية، مع التأكيد في الوقت نفسه على حماية السيادة.
في خضمّ الانهيار الشامل وفقدان الثقة بالمؤسسات الرسميّة، بقي الجيش المؤسسة التي تحتفظ بأعلى نسب الثقة بين اللبنانيين. فالأمن الذي يوفّره في الشارع، ودوره في مواجهة الإرهاب في السنوات الماضية، رسّخ صورته كحامٍ للشعب. إلا أنّ هذه الثقة معرضة للاهتزاز إذا لم تُترجم بدعم عملي وسياسي واضح لمهامه المستقبلية.
الجيش اللبناني اليوم يؤدي دوراً مزدوجاً: منع تفجّر الداخل عبر فضّ النزاعات واحتواء التوترات، والدفاع عن الحدود وحماية الشعب ضمن قدراته المتاحة، لكنه يقف في الوقت نفسه على عتبة تحدٍّ مصيري: هل يُترك ليبقى خط الدفاع الأخير ضد الفوضى، أم يُمنح الغطاء والإمكانيات ليصبح القوة القادرة على فرض سلطة الدولة كاملة؟