د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
كان شاغل الدنيا والناس، حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، لم يستسلم لقتلته النازيين.
فالمشهد الذي كنا نتصوّر يومًا أننا قد لا نراه إلّا في أفلام هوليوود أو بوليوود، خطف أنفاسنا ونحن نتابعه بحزن، وفيه رجل يجلس على كنبة وسط الخراب والدمار، وهو يقذف بخشبة طائرة مسيرة دخلت المبنى الذي يتحصن فيه لاغتياله.
وبالرغم من أن قواه قد خارت، غير أنه أبى إلّا أن يرحل مقاومًا وهو يستقبل الموت بشراسة وجهًا لوجه، فلم يولي هاربًا أو يختبئ من مواجهة جنود الاحتلال.
لطالما تردد اسمه على كل شفة ولسان داخل إسرائيل والعالم، ولعقود طويلة، أدخل الرعب والخوف والهلع في قلوب الصهاينة. فنادرًا ما تسمع أو تشاهد أو تقرأ خبرًا عن فلسطين والمقاومة، إلا ويكون حاضرًا فيه ومتصدرًا العناوين.
إنه الشهيد الكبير يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والقائد الفلسطيني الميداني لعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 والمطلوب رقم واحد لإسرائيل وجميع أجهزتها الاستخباراتية والأمنية، ونظرائهم في الولايات المتحدة والغرب الأطلسي.
من هو يحيى السنوار؟
في الواقع، لفهم سيرة وشخصية السنوار، يجب على المرء أولاً أن يفهم من أين أتى.
عاشت عائلة السنوار مأساة النكبة التي رافقته وما زالت في كل محطة من محطات حياته حتى أيامنا هذه، بحسب زميله السابق في السجن عصمت منصور الذي أوضح أن هذه "الذكريات لن تتركه".
وُلِد السنوار في مخيم خانيونس للاجئين في غزة عام 1962.
وقد أُجبرت عائلته على مغادرة بلدة المجدل الفلسطينية في أعقاب حرب عام 1948، والتي أدت إلى اقتلاع الفلسطينيين من جذورهم في عام 1948، وطردهم من وطنهم الأم،
بعد إفراغ المجدل من سكانها الفلسطينيين والسطو على أراضيها من قبل المستوطنين الصهاينة – تم ترحيل آخر السكان في عام 1950 – أعادت إسرائيل تسمية المدينة عسقلان، حيث كان الشهيد السنوار قد قضى لاحقًا بعض الوقت في سجنها المشهور هناك.
وبحلول الوقت الذي ولد فيه السنوار، كانت خيام اللاجئين الموجودة بين الكثبان الرملية في خان يونس قد تم استبدالها بمنازل صغيرة من الطوب، لكن الظروف كانت ولا تزال مزرية حتى الآن.
محطات حياته النضالية للشهيد السنوار داخل السجن
عمليًا، تأثر السنوار بتنشئته القاسية في مخيم للاجئين الفلسطينيين وعقود من الاعتقال الإسرائيلي. فهو أمضى 22 عامًا في السجن وهو يدرس عدوه عن كثب، ويقرأ كتبًا عن السياسة الإسرائيلية ويتعلم اللغة العبرية، حتى إجادها بطلاقة.
اعتقلت إسرائيل السنوار لأول مرة عام 1982، عندما كان طالبًا جامعيًا في الجامعة الإسلامية في غزة، وبذات الوقت عضوًا مؤسسًا في الحركة الطلابية التابعة لحماس.
كان السنوار ناشطًا خلال الانتفاضة الأولى، التي بدأت في غزة عام 1987. ثم ما لبث أن أصبح قريبًا من مؤسس "حماس" الشيخ أحمد ياسين، حيث كان يصلي معه في نفس المسجد بمدينة غزة.
في العام 1988، اعتُقل السنوار مرة أخرى، إثر إصابته بجروح عندما انفجرت عبوة ناسفة كان يصنعها.
يتحدث أحد المحققين الصهاينة الذي تم تكليفه بمهمة انتزاع اعترافات من السنوار ويدعى مايكل كوبي ـــ وكان قد قضى أكثر من 150 ساعة في استجوابه لصالح "الشين بيت"، وكالة المخابرات الداخلية الإسرائيلية ـــ عن صلابته وحزمه النابع من قوة شخصيته، خصوصًا مع الفلسطينيين المتعاونين مع جيش الاحتلال عندما كان شابًا، لا سيما خلال فترة ترؤسه لقوة الأمن الداخلي لحماس "المجد".
كما وصف السنوار بأنه "ثابت في قراراته، حتى لو كانت قاسية". والمثير أن صفاته تلك سلطت الضوء على القائد الذي سيصبح عليه.
وتعقيبًا على ذلك، وصفه إيهود ياري (صحفي معروف لعقود في إسرائيل كخبير في السياسة الشرق أوسطية) بأنه "رجل مباشر، لا هزل، لا بلاغة، يذهب مباشرة إلى النقطة، محسوب جدًا، واضح المكر".
بعد اعتقال السنوار وإرساله إلى السجن في عام 1988، لم يظهر أي خوف من سجانيه. يروي محقق آخر من جهاز "الشين بيت" الإسرائيلي أن السنوار قال له: "أنت تعلم أنه في يوم من الأيام ستجد نفسك تحت الاستجواب، وسأقف هنا كحكومة، كمحقق."
بعد 7 أكتوبر، أوضح المحقق أنه "إذا كنت أعيش في مجتمع قريب من قطاع غزة، فقد أجد نفسي في نفق، أمام ذلك الرجل.
أتذكر تمامًا كيف قال لي ذلك، كوعد، وكانت عيناه حمراوين.
كيف صاغ ذلك؟ ستتغير أدوارنا.
سيتقلب العالم بالنسبة لك."
كان العيش الكريم للشعب الفلسطيني أحد هموم السنوار إلى جانب مشروع المقاومة، إذ ينقل زميله عصمت منصور عن السنوار أنه كان يتحدث في السجن عن نقص خدمات البنية التحتية في المناطق والمخيمات الفلسطينية في الأراضي المحتلة، ويشدد على ضرورة النضال ضد العيش على مساعدات الأمم المتحدة.
ويضيف منصور، أن "السنوار كان يعود دائمًا إلى هذه القصص ويقول لنا: ناضلوا ضد الاحتلال".
عارض السنوار بشدة اتفاقيات أوسلو لعام 1993، وهي الاتفاقية التي توسطت فيها الولايات المتحدة والتي حددت حل الدولتين للصراع.
وكيف سطع نجم السنوار في حماس؟
في الحقيقة، لم يأتِ الشهيد السنوار من العدم. مع تزايد بروز حماس في المشهد السياسي الفلسطيني، بدأ نجم السنوار في الصعود داخل الحركة، وكان ذلك على مرحلتين: الأولى، وقبيل اشتعال شرارة الانتفاضة الثانية بفترة قصيرة، بعدما تم انتخابه زعيمًا لحماس في السجن، حيث قاد الاضرابات في محاولة لتحسين ظروف السجناء، وهنا بدأ نفوذه بالتنامي في السجن.
والثانية، بعد إطلاق سراحه من السجن عام 2011، مع 1026 سجينًا فلسطينيًّا آخر مقابل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي المختطف جلعاد شاليط.
في البداية، لم يكن للسنوار أي نفوذ يُذكر في النظام الجزائي الإسرائيلي، حيث ينقسم السجناء إلى فصائل فلسطينية مختلفة.
غير أنه مع الزمن بات معروفًا ومشهورًا بين زملائه، وقد تميز بالبحث عن المتعاونين مع إسرائيل، وفقًا لكل من منصور وكوبي.
تشير نصوص الاستجواب وروايات مسؤولي الأمن الإسرائيليين وزملائه السجناء وغيرهم ممن التقوا به، إلى أنه كان استراتيجيًّا متشددًا، وأكثر ميلًا إلى قتل (عملاء الاحتلال وجنوده وضباطه من مسافة قريبة).
من هنا نفهم أن مشاهد بطولات المقاومين في غزة وهم يضعون العبوات أو يطلقون الصواريخ والقذائف الموجهة على الدبابات وعناصر الاحتلال من مسافة صفر، إنما تعود في أصلها لتكتيكات السنوار.
السنوار والأسير الصهيوني جلعاد شاليط؟
في يونيو/حزيران 2006، تم الاشتباه (وفقًا للعدو الإسرائيلي) بقيام شقيق السنوار الأصغر، محمد السنوار، بدور رئيسي في الغارة عبر الحدود التي أدت إلى أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
وتبعًا لذلك، يشير زميله منصور إلى أنه "عندما أصبحت حماس أقوى، واختطفوا شاليط، أصبح عرض الرجل الواحد". أي أن تركيز إسرائيل انصبّ حينها على السنوار فقط، لإتمام الإفراج عن الجندي الإسرائيلي.
ويكشف منصور، أن السنوار بدوره لم يعد مهتمًا بالاجتماع مع سلطات السجن، وبدلاً من ذلك عقد جلسة محاكمة مع المخابرات الإسرائيلية ومسؤولين آخرين يسعون إلى إطلاق سراح شاليط.
الشهيد السنوار وعملية طوفان الأقصى
عُرف السنوار، وفقًا للأصدقاء أو العدو الإسرائيلي، بوضعه قضية الأسرى في مقدمة أولوياته، بهدف تخليص السجناء الفلسطينيين من محنتهم، بحيث عُدّ هذا الأمر السبب الرئيسي لإطلاق عمليات الأسر الجماعية للإسرائيليين في 7 أكتوبر.
اللافت أنه قبل العملية بسنوات، تحدث الشهيد السنوار في عام 2019 عن "الفخاخ" التي أعدتها حماس في أنفاقها إذا ارتكبت إسرائيل أي "أخطاء غبية"، وقال: "سنحطم تل أبيب".
والمثير في هذه النقطة، تأكيده أن "السيناريو موجود، وتم الانتهاء من التدريبات"، مشيرًا إلى أن غزة ستنفجر بكل قوة مقاومتها، وستنفجر الضفة الغربية بكل قوتها. وسيهاجم شعبنا جميع المستوطنات دفعة واحدة.
كما أفصح عن نيته بإرسال "عشرة آلاف طالب للشهادة" إلى إسرائيل إذا تم الإضرار بالأقصى، فضلاً عن إشعال النيران في الغابات الإسرائيلية، وإبادة إسرائيل من خلال الجهاد المسلح والنضال.
ومع ذلك، نجح السنوار في مناسبات عدة بتضليل إسرائيل، التي عجزت عن معرفة ما يخطط له.
ففي مقابلات صحفية عامة قبل عملية طوفان الأقصى قال إنه لا يسعى للمواجهة، "ولا أريد المزيد من الحروب". ليتبين لاحقًا أنه كان يخدع إسرائيل ويعطيها شعورًا زائفًا بالهدوء.
ليس هذا فحسب، يكشف شلومي إلدار، وهو صحفي إسرائيلي ـــ كتب كتابًا عام 2012 عن حماس وأجرى مقابلات مع بعض كبار مسؤوليها ـــ أنه من خلال انضمامه إلى الجناح السياسي لحركة حماس، أدى السنوار دورًا فعالاً في طمس التمييز بين مقاتلي الجماعة ومسؤوليها.
وإذ يشير إلدار إلى أن "السنوار غيّر حماس"، أوضح أن "أيًّا من قادة الجماعة الآخرين لم يكن ليقوم بتنظيم هجوم بحجم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، خوفاً من رد الفعل العنيف. لكن السنوار مختلف".
ويتابع إلدار: "التفسير الوحيد الذي يمكنني تقديمه هو أن هذه شخصيته".
بالمقابل، يعتبر قادة فلسطينيون من خارج حماس أن "السنوار بمقامرته كان يحاول تقديم نفسه كزعيم للقضية الفلسطينية، وهو الدور الذي سعى إليه منذ فترة طويلة. ولهذه الغاية، قال مسؤول فلسطيني التقى السنوار عدة مرات: "شعرت وكأنه يقول: أنا ياسر عرفات 2".
وأقرّ المسؤول، الذي رفض الكشف عن هويته، قائلاً: "لا يمكن لأحد أن ينكر أنه سجل اسمه في التاريخ من ناحية، وغير الوضع الجامد الذي اعتمدته إسرائيل في التعامل مع الفلسطينيين".
وضعت تل أبيب قتل السنوار هدفًا رئيسيًّا للحرب الدموية التي يشنها جيش الاحتلال على غزة، إلى جانب القائد العسكري الكبير لحماس محمد الضيف.
ورغم ذلك، ومنذ 7 أكتوبر أصاب السنوار الصهاينة بالجنون، بعدما أفلت من مطاردتهم لمدة عام كامل، وهم يبحثون عنه ويحرقون الحجر والبشر من أجل القبض عليه. وقد سخّروا لأجل ذلك كمًا هائلًا من أجهزة المراقبة والتجسس والاستشعار، إضافة إلى أساطيل من الأقمار الصناعية الغربية والأمريكية.
في المحصلة:
صحيح أن إسرائيل نجحت باستهداف السنوار وقتله، ملتحقًا برفاقه الشهداء في فلسطين ولبنان، غير أنه حقق في النهاية ما كان يأمل ويسعى له طوال مسيرته الجهادية أي الشهادة.
فخلال تفشي فيروس كورونا، أسرّ لمحدثيه قائلاً: "إنه سيكون أمرًا فظيعًا إذا مات بسبب فيروس كورونا ولم يحصل على فرصة ليكون شهيدًا ويقتل الكثير من الناس في نفس الوقت". وهذا ما فعله بالضبط.