يحيى الإمام - خاص الأفضل نيوز
إذا كان الاستقلال يعني الاعتماد على الذات، لغةً واصطلاحاًِ، ورفض كل تدخل أجنبي أو تأثير خارجي في شؤون البلاد، ومنع قوى الاستعمار والاحتلال والانتداب والوصاية من تحقيق أطماعها، فهذا يعني أن معركة الاستقلال التي بدأت في سنة ١٩٤٣ لا تزال مستمرة من أجل تحقيق الحرية والسيادة للوطن، وهذا الاستقلال تصنعه اليوم إرادة المقاومين الأحرار وتضحياتهم الجسيمة وإصرارهم على مواجهة العدوان الصهيوني و مساندة فلسطين والدفاع عن لبنان، ولأن هذا العدوان لا يستهدف فلسطين ولبنان فقط بسبب أحلام العدو وأطماعه التوسعية التي لا تخفى على عاقل ، فإن قوى المقاومة وفي مقدمتها كتائب القسام ووحدة الرضوان تدافع عن سيادة الأمة وتسطر الملاحمَ والبطولات فَهِمَ ذلك من فَهِم أو تغابى من تغابى، وقد صدق الشاعرُ العربي حين قال : لا يسلمُ الشّرفُ الرفيعُ من الأذى
حتّى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ ).
صحيح أن ما قام به رجال الاستقلال، في حراكهم السياسي عام ١٩٤٣، لا يمكن الاستخفاف به، ولا ينبغي التقليل من أهميته في أنظار الناشئة على الأقل، لكي يبقى لهم ما يفخرون به من تاريخ ولو أن هذا التاريخ في كثير من صفحاته لم يكن مشرقاً بما يكفي، وقد قال الشاعر : ( وما كتبُ التاريخ في جُلِّ ما روَت
لأصحابِها إلا حديثٌ ملَفَّقُ
نظَرنا بأمرِ الحاضرينَ فرابَنا
فكيف بأمر الغابرينَ نصدّقُ؟)، غير أن لبنان وطن يستحق أن نفتخرَ به ونباهي بانتمائنا إليه وعيشنا فيه، كيف لا وهو اليوم يقف كالطود الشامخ في مواجهة الأعاصير والتحديات؟ وكيف لا يستحق احترام أحرار الأرض وهو يقف في وجه أعتى قوة عسكرية ويقول : " لا للظلم والعدوان ".. تغير عليه الطائرات وتدمر البيوت وتقتل الأبرياء وتزرع الرعب في قلوب الآمنين وتشردهم، ورجال لبنان يمرِّغون أنف الاحتلال بوحول قراه في الجنوب ويمنعونه، رغم تفوقه في سلاح الجو، من التقدم والتوغل، ويكبدونه الخسائر في الأرواح والعتاد، ويصفعون وجهه القبيح كل يوم بعشرات الصواريخ المجنّحة والبالستية والمسيرات الانقضاضية التي تنطلق من لبنان و تصل إلى حيفا وتل أبيب وتصيب أهدافها بدقة عالية؟
إنه لبنان أيها السادة!!
إنه لبنان آيها الأشقاء والأصدقاء والأعداء!! فلبنان الذي قال عنه شاعره الملهم، بالشعر لا بالفكر، سعيد عقل :
( لي صخرةٌ عُلّقَت بالنَّجمِ أسكنُها
طارت بها الكُتبُ، قالت: تلك لبنانُ
توزّعتها هموم الشرقِ فهيَ هوًى
وكرُ العقابين تربَى فيه عُقبان
أهلي ويَغلونَ يغدو الموتُ لعبتَهم
إذا تطلَّعَ صوبَ السَّفحِ عُدوانُ...).. لبنان هذا لا يمكن أن يهزم أو يرضخَ أو ينحني للضغوط الأمريكية والغربية، ولسوفَ تتكسر على صخوره فؤوس الاحتلال ومن يقف معه وخلفه لأن إيمان بنيه وإرادتهم الثبات والدفاع عن الحق، ولبنان اليوم بفضل مقاومته وجيشه وشعبه يعتبر من أقوى دول العرب وأكثرهم شهامةً وشرفاً ولا أغالي، فهو لم يقف متفرجاً على إبادة العرب في غزة هاشم، ولا اكتفى بالتنديد وبيانات الشجب والاستنكار، وإنما انتفض بدافع الأخوة والأصالة والعزة والكرامة والشموخ والإباء ليمسحَ الدموع عن وجوه الثكالى واليتامى والأرامل في فلسطين، وقدم في سبيل ذلك آلافَ الشهداء وفي مقدمتهم السيد الأكثر عروبةً والأعزُّ نسباً والأتقى ديانةً والأكثر شرفاً، سماحة سبط بيت النبوّة حسن بن عبد الكريم نصر الله رضوان الله عليه وعلى من سبقه ولحق به من شهداء على طريق القدس.
وهكذا فإننا نصنع الاستقلال الحقيقي الذي يليق بنا، ونشعر بالعزة والكرامة الوطنية كلما وقفنا في محراب الشهادة والمقاومة، ونستذكر التضحيات والرجولة والبطولة والغيرة الوطنية والقومية ونعتز، إنها المعاني الحقيقية للاستقلال و التي تترسخ في أذهان الناشئة اليوم، وإنها المفاهيم الصحيحة للسيادة والحرية.. فلبنان الأمس وسيادته واستقلاله لا يشبه لبنان اليوم أبداً، والاستقلال لا يعطيه القوي للضعيف، ولا يهديه الغني للفقير، ولا يمنحه الوجيه للوضيع ، وإنما يؤخذ عنوةً وبالقوة من بين أشداق الذئاب، والسيادة لا تصان بالوقوف على أبواب السفارات الأجنبية، والحرية ليست شعاراً فارغاً يضمن التدخل الأجنبي في حياة المجتمعات السياسية، ولم يعد لبنان يقنع أو يرضى بانتخاب رئيس أو تشكيل حكومة بإيعاز من تلك العاصمة أو تلك، وإنما يفرض رجاله خيارات وطنية تجمع اللبنانيين وتقدم مصالحَهم الوطنية على مصالح الغير.
نعم إن الاستقلالَ الذي نصبو إليه هو ما تظهر بشائره في عناد المقاومين اليوم في جنوب لبنان، وإن معركة الدفاع عن استقلال لبنان وحريته وسيادته هي معركة مستمرة ما دامت أطماع الاستعمار في منطقتنا مستمرة، وقد قال القائد الخالد جمال عبد الناصر : " إن مصيرَ الشعوبِ لا تقرّرُه كبوة عارضةٌ، وإنما حجم الإرادة الوطنية والقومية، واستعدادنا لتقبُّل الخطر وتحمّل الصعاب"... وإننا اليوم بجيشنا وشعبنا ومقاومتنا نبني الاستقلال ونحمي الحرية ونحفظ السيادة ولو كره الكافرون!!!