كتب جوزف الهاشم في الجمهورية:
استمعنا بشغَفٍ إلى مناقشة البيان الوزاري في البرلمان، وراح النواب يحلّلون مضامين البيان إجتراراً على اجترار في منافسة منبريّة، والمنابر المجلسيّة طالما اشتاقت إلى أربابها.
في مراجعة للبيانات الوزارية منذ الاستقلال، يتبيّن أنّ هناك ثمانيةً وسبعين بياناً لثمانٍ وسبعين حكومةً، ولم تكن ممارسات الحكومات منطبقة على مضمون البيانات، ما يعني أنّ لا جدوى من مناقشةِ ما يُكتب بالحبر على صفحات الورق، بل ما يُكتبُ بماء الوجهِ على صفحات التاريخ.
لذلك، لم يشغلني في البيان المحتوى، بقدر ما شدّني إليه الشكل، والشكلُ هو المظهر البليغ الذي يعكس جوهر المضمون.
في الشكل اللفظي: استمعتُ إلى وزير الإعلام يتلو العناوين الكبرى للبيان الوزاري في القصر الجمهوري فلفتَتْني تسميةُ رئيس الجمهورية بالسيد الرئيس، ورئيس الحكومة بالسيد، عبارةٌ تحلّ محلّ أصحاب الفخامة وأصحاب الدولة وأصحاب المعالي، وهي ألقابٌ تتمتّع بالعصمة والحصانة وتتقارب من أسماء الله الحسنى، حتى إذا شئتَ أن تحاسبها فكأنّكَ تحاسب ألقاباً إِلهيّة.
على أنّ كلمة السيّد لا تقلّ مهابةً عن الفخامة، لدرجة أنّ خطيب الثورة الفرنسية «ميرابو» رفض استبدال الألقاب الأرستقراطية بلقب السيد لأنّه يُعبّر عن استعلاء الحاكم على المحكوم، فأطلق على كل إنسان فرنسي لقب المواطن.
ألا ترَون أننا نحن أوْلى باعتماد لقب: الرئيس المواطن والوزير المواطن والنائب المواطن، في الوقت الذي نحتاج فيه كثيراً إلى التذكير بالوطنية والمواطن والوطن؟
في الشكل، يبرز أيضاً في البيان اسم «الدولة» طاغياً على كلّ المضامين والعناوين: فجاء فيه: «إصلاح الدولة، تحصين الدولة، إعلاء بناء الدولة، الدولة القادرة، دولة تردع المعتدي، بسط سيادة الدولة، حق الدولة في احتكار السلاح، دولة تملك قرار الحرب والسلم، دولة جيشها صاحب عقيدة، دولة وفيّة للدستور، دولة محايدة في التنافس السياسي، إلى ما جاء في نهوض الدولة، وترفُّعها عن الإنحياز...».
في علم النفس السياسي إنَّ التشدّد بتكرار اسمٍ ما أو حالةٍ ما، يعبّرُ عن قلقٍ وخوفٍ وترقّب، وهل هناك أشدُّ من الخوف على دولةٍ تكاد تفقد أبرزَ مرتكزات وجودها الكياني والسيادي والقانوني؟
أحببت أن أذكر هذه العناوين للدولة، تعميماً للفائدة، وحتى تظلّ راسخة في أذهان المواطنين ووجدان المواطن الرئيس والمواطن النائب والمواطن الوزير.
من أجل استيعاب كل ما تعنيه كلمة الدولة ومفرداتها في البيان، على هذه الحكومة أن تخرج من كوابيس التقليد، وأن يكون لها في البُعد السياسي بيانان: بيانٌ مكتوب، وبيانٌ موثوق - أي ميثاقي - والميثاق في القاموس هو العهد، والعهد لا يبَرُّ بهِ الكلامُ المعسّل، بل هو الإقدامُ مهما كانت الصعوبات، كما جاء في ردّ رئيس الحكومة على النواب «ولا بدّ عند الشهدِ من إبَرِ النحلِ».
وعلى هذه الحكومة، أن تكون حكومتين: حكومة موالاة وحكومة معارضة معاً، بحيث تراقب نفسَها بنفسها، لأنّ المجلس النيابي المتورّط بالمخالفات لا يستطيع أنْ يحاسب الحكومة على أدائها، ولأنَّ المعارضة النيابية لهذه الحكومة هزيلةُ الحجم واهيةُ الحجّة، شأنها شأنُ الذين ألقوا يوسف في البئر وراحوا يتودّدون إليه عندما أصبح وزيراً في قصر فرعون. هناك رهان تاريخي على هذه الحكومة، وعلى هذا العهد العارمِ الدعم ورهانات التاريخ قلّما تتكرّر. فما لكَ بعدَ هذا اليومِ يومٌ فإنْ لمْ تستطعْ لنْ تستطيعا.