إلياس المرّ - خاصّ الأفضل نيوز
هي مسيرة بناء القوة التي انتهجها الرئيس بوتين منذ العام ٢٠٠٠ في روسيا الاتحادية بعد عقدٍ من الضياع والضعف والهوان، إبان انهيار الاتحاد السوفياتي، ورشة عمل قامت على ثلاث ركائز أساسية :
أولاً، تعزيز الاستقرار الداخلي وبناء الدولة القوية، وذلك من خلال إعادة بناء المركزية القوية، إصلاح الاقتصاد المدمرّ، إعادة بناء القوات المسلحة، مكافحة الحركات المتطرفة والانفصالية، وكانت ساحته الرئيسية في الشيشان كنموذج.
ثانياً، استعادة النفوذ الروسي على الساحة الدولية، وكان ذلك عبر رفض الانصياع للهيمنة الأميركية على العالم بعد انتهاء الحرب الباردة لصالحها، والعمل على خلق عالم متوازن من خلال تعدد الأقطاب،
التدخل العسكري المباشر في مناطق استراتيجية، مثل جورجيا عام ٢٠٠٨، أوكرانيا ٢٠١٤ واستحواز القرم، سوريا عام ٢٠١٥، حيث كانت العودة لنفوذ روسيا إلى الشرق الأوسط، تعزيز التحالفات الاستراتيجية، عبر التقارب مع الصين وخلق المشاركة الفاعلة في منظمات ومنصات دولية، أصبحت مع الوقت أكثر فعالية وتأثيرًا في العالم مثل الشنغهاي والبريكس، استخدام الطاقة كسلاح جيوسياسي، من خلال السيطرة على إمدادات الطاقة إلى أوروبا مما منح روسيا نفوذًا سياسيًّا واقتصاديًّا، وجعلها شريكًا مؤثرًا على الساحة الدولية.
ثالثاً، بناء هوية قومية روسية، قائمة على القيم التقليدية وكان ذلك من خلال:
تعزيز القيم الأرثرذكسية، تبني الخطاب القومي، مواجهة الحركات الليبرالية ورفض القيم الغربية، مثل المثلية وغيرها، وتقديم نموذج عن "الديمقراطية المحافظة"، الحفاظ على الخطاب الأمبراطوري والبناء على نتائج الحرب العالمية الثانية وانتصاراتها، كعنصر موحد للشعب الروسي.
مفاعيل وانعكاسات التقارب الروسي الأمريكي
هذه الركائز الثلاث لسياسة بوتين، مكّنت روسيا من إثبات نفسها من جهة وفرض نفسها كلاعب وشريك قوي وفاعل على الساحة الدولية من جهة ثانية، تمكنت من خلالها الجلوس على طاولة واحدة مع القوة المتصدرة في العالم- الولايات المتحدة-لما لهذا الحوار من مفاعيل في الشكل والمضمون على الساحة الدولية، لا سيما في الملفات الحساسة، أبرزها:
الملف الأوكراني، حيث بدا هناك، أن حرباً عالمية ثالثة تدور أحداثها بين بلدين، يصطف نصف العلم خلف كل من الفريقين المتصارعين على مدى أربعة أعوام، وعلى ما يبدو، أن أولى مفاعيل التقارب الروسي -الأمريكي، ستكون بوضع حدٍّ لهذا الصراع الذي بات ذا كلفة عالية على الدول الغربية واقتصاداتها من جهة، وعلى روسيا بإشغالها عن مسار النمو والتقدم من خلال الاستنزاف العسكري بالرغم من تفوقها وتقدمها الدائم، والعقوبات الاقتصادية بسبب المواقف الغربية ضدها نتيجة الصراع المستمر.
أزمة الطاقة العالمية، بحيث ينعكس التقارب الروسي -الأميركي إيجاباً على سوق الطاقة العالمي، من خلال استقرار التدفقات إلى أوروبا وينعكس انخفاضاً في أسعار النفط وما لذلك من أثر إيجابي على خفض التضخم والضغوطات على الاقتصاد العالمي، المثقل أساساً بالأزمات الصحية في السنوات الأخيرة وأبرزها إغلاقات الكوفيد، وانخفاض الإنتاج العالمي، بالإضافة إلى أرمة الممرات المائية وطرق التجارة الدولية بسبب الإضرابات والحروب لا سيما البحر الأسود والأحمر وما لها من انعكاس مباشر على أسعار الشحن وكلفة التأمين وارتفاع مؤشر المخاطر،
الملف الإيراني، وهو أحد أبرز الملفات الإقليمية، التي لها تداعيات على منطقة الشرق الأوسط ودول الخليج العربي، ملف اليمن، لبنان، العراق، الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال دعم المقاومة، كما وله امتداد إلى ما هو أبعد من ذلك باتجاه آسيا الوسطى والقوقاز من خلال أذربيجان وأرمينيا، إلى أفغانستان من خلال دعم الشيعة (الهزارة) هناك، مروراً بأوروبا وما للملف النووي من أهمية، وصولا إلى أفريقيا وشرق آسيا من خلال بناء تحالف استراتيجي مع الصين تكلل باتفاقية ال ٤٠٠ مليار دولار.
في هذا الصدد يعول على التقارب الروسي الأميركي في إيجاد حلول، ومساعٍ لتقريب وجهات النظر والدفع للوصول مجدداً إلى اتفاق نووي، يرسي بوادر الاستقرار وخفض النزاع في منطقة الشرق الأوسط ويسمه في تعزيز مفرص الأمن والاستقرار الدولي.
أما على مستوى الشرق الأوسط، فقد يسهم التقارب الروسي -الأمريكي، لإيجاد حلول لملفاتٍ ثلاثة شائكة؛ الملف الإسرائيلي -الفلسطيني، بحيث يمكن للضمانات المشتركة، الروسية -الأميركية أن تخفض من وتيرة الصراع الملتهب في المرحلة الأخيرة منذ السابع من أكتوبر، ويمكن من خلاله العودة إلى مرحلة من الاستقرار النسبي تمهيدًا لعودة المفاوضات وصولاً لحل الدولتين الذي يرضي جميع الأطراف، وتمهيداً لمشروع سلام مستدام طويل الأمد، كذلك في الملف اليمني، حيث يمكن لكلا الطرفين من خلال علاقاتهما الضغط للوصول إلى تفاهم بين الحوثيين والحكومة اليمنية، كما وفي سوريا أيضا من خلال نفوذهما وتواجدهما المباشر، يمكن الوصول إلى تفاهمات تعزز الاستقرار السياسي والاقتصادي بعد عقدين من الصراع الدامي فيها.
حلف الناتو
لا يمكن الحديث عن تقارب روسي أمريكي، دون التطرق إلى مستقبل ومصير حلف الناتو خصوصاً مع المواقف السابقة للرئيس ترامب قبل الجلوس مع الروس من هذا الحلف والدعوة لأكثر من مرّة لحله، أو التقليل من مساهمة أمريكا المادية والعسكرية فيه، وهذا التأثير على ثلاثة مستويات مباشرة، أولها على دول أوروبا الشرقية التي تعتمد على الحلف أو على أمريكا بشكل مباشر، لمواجهة النفوذ وما تعتبرها أطماعًا تاريخية روسية في بلدانها.
التأثير على الدول الأوروبية عموماً، حيث ستلجأ لتعزيز قدراتها العسكرية بشكل مستقل عن أمريكا، مما قد يؤدي إلى توترات داخلية بين أعضاء الحلف،
كما وسيؤدي أي تراجع للمساهمات والدور الأميركي في الناتو إلى خلق حالة من التنافس الأوروبي لتزعم الحلف ما يعزز بالتالي روح التنافس الأوروبي الداخلي ويعزز التوترات الموجودة أصلاً والمزمنة بين الدول الأوروبية نفسها، لا سيما بين فرنسا، ألمانيا وإيطاليا، وسط توترات وتبدلات وتحديات سياسية واقتصادية داخلية، وتقدمٍ لليمين السياسي، الذي يميل أصلاً إلى القومية بعكس الاتحادية، وإلى الملفات الداخلية على حساب تحالفات وتجمعات دولية، مثل الناتو،
الصين
أما الملف الأبرز في الحسابات الأمريكية، في قائمة التحديات على الساحة الدولية، الذي يتصدر قائمة أولويات السياسة الخارجية، على المستويات السياسية العسكرية والاقتصادية، هو الصين، التنين النائم، أو الأصح، الذي يعمل بلا كلل بصمت وهدوء.
هي واحدة من أهم أسباب الرغبة الأمريكية في التقارب من موسكو، لاحتوائها، بهدف تغيير قواعد اللعبة التي بدأت تميل لصالح المحور الشرقي، بعد النجاح في تمتين التحالفات الإقليمية والدولية بين دول المحور نفسه، كما وبينها وبين الدول التي أقامت التحالف مع المحور الغربي تقليدياً، فنجح المحور الشرقي في اختراقها وضمها إلى مجموعة المنصات الدولية مثل البريكس والشنغهاي، كانضمام دول الخليج مؤخراً وقبلها الهند حيث تعتبر من أهم حلفاء أمريكا، وشركائها الاقتصاديين .
إذًا، لا بد من خلق دينامية سياسية جديدة، تعدّل من المسار التصاعدي للنمو والنفوذ الشرقي ولا بد لذلك من اختراق المحظور، بمدّ جسور التعاون مع المنافس اللدود -روسيا- لاحتوائه ومواجهة المنافس الأشد شراسة، الصين، والرهان من هذه المحاولة هو تقليل الاعتماد الروسي على بيجين، مما يعزز فرص التباعد، وعدم الالتحام والتماهي المطلق الموجود اليوم على كل الملفات، والتفرغ الدائم لجمع الحلفاء من حول العالم حول مشروع كلا الدولتين روسيا والصين، الهادف إلى عالم متعدد الأقطاب يقوم على تعزيز القوى والتحالفات الإقليمية، تسعى أمريكا من خلال هذا التقارب لإقناع موسكو بنظرية أخرى تقوم على عالم ثنائي القطب، بدل من الأحادية الأمريكية، أو التعددية المطروحة من قبل المشروع الروسي الصيني، ثنائية تتقاسم فيها أمريكا وتكون المسؤولة عن المحور الغربي، وروسيا وتفوض بالتزام أمور المحور الشرقي، يتقاسمان النفوذ وبالتالي الثروات في العالم على حساب شركاء كل منهما، أوروبا، والصين.
قد ينتج هذا المسار إذا ما استمر وتنامى ظهور تحالفات جديدة حول العالم تقوم على قاعدة "تحالف الضحايا" أبرزها سيكون تقارب أوروبي -صيني، إيراني- صيني، وسيؤدي إلى تراجع دور الناتو، وقلق دول أوروبا الشرقية التي كانت تعتمد على أمريكا في حمايتها، وتحلل منصات كالبريكس وشانغهاي لانتفاء الدور الوظيفي لها، ومحاولة بريطانية للتعويض على أيتام السياسة الأمريكية واستعادة الدور والنفوذ على الساحة الدولية.
باختصار، إذا حصل هذا الأمر بالشكل الجدي، نكون أمام "اتفاق يالطا" جديد، الموقع عام ١٩٤٥، حيث قسّم النفوذ في العالم بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وللمفارقة أن الاتفاق وقّع في شبه جزيرة القرم التي شكلت استعادتها من قبل موسكو فاتحة الشرارة للعودة إلى الساحة الدولية، حيث ستكون مرّة جديدة أوروبا بقسميها الشرقي والغربي ضحية هذا الاتفاق "يالطا الجديد"، حيث إن الأسباب الموجبة نفسها متوفرة اليوم هو عدم الذهاب إلى الحرب العالمية الثالثة.
انعدام الثقة
صحيح أن التقارب الروسي -الأمريكي في المرحلة الأخيرة أرسى نوعًا من التفاؤل لدى البعض، إلاّ أن المبالغة في هذا التقارب وصولاً إلى تخلي كل طرف عن سياساته وحلفائه بالمطلق، غير وارد الحديث فيه، في هذه الموحلة فلا أمريكا مستعدة للتسليم بالنفوذ الروسي في العالم وتبقى سياستها ضمن إطار الاحتواء المؤقت وربط النزاع والهدف مواجهة الصين، ولا روسيا مستعدة للتخلي عن كل الحلفاء والمكتسبات حول العالم حيث راكمت من خلال السنوات، تجربة سياسية واقتصادية وعسكرية ناجحة تقوم على القوة التي تحمي المصالح، وتقوم على نسج التحالفات العميقة التي وصلت إلى عقر الدار الغربية، فهي لن تتخلى عن هذا المسار بسهولة.
مصالح متبادلة قصيرة المدى
إنَّ الواقع الحالي بين القوتين العظميين، هو ربط نزاع يقوم على "التفاهمات الهامة" على بعض الملفات وليس مجملها، بدل من "التحالف الاستراتيجي" المتعذر بسبب الظروف والوضعية الراهنة، تحقق أمريكا من خلاله أهدافًا سريعة قوامها، احتواء الصين، كبح التقدم الشرقي السريع، إعادة ضبط التوازن العسكري في أوروبا لا سيما الشرقية منها، وخفض التوتر على حدود الناتو، إعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط، احتواء البرنامج النووي الإيراني، استقرار سوق الطاقة، الحد من الأنشطة السيبرانية الروسية.
أماّ الأهداف الروسية، تكمن بشكل أساسي في السعي لرفع العقوبات الإقتصادية، حسم المعركة لصالحها في أوكرانيا من خلال وقف الحرب والاحتفاظ في المناطق الشرقية الثلاث، الدونيتسك، لوهانسك وماريوبول، إضعاف حلف الناتو، الذي حاول الوصول إلى الخاصرة الروسية من خلال أوروبا الشرقية، تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط وضمان الاستقرار في المياه الدافئة من خلال تفاهمات في سوريا، تعزيز الشراكة الإقتصادية من خلال شركات النفط والغاز وتخفيف الضغوط عن خطوط الغاز لا سيما نورد ستريم، إعادة التوازن في الشراكة مع الصين من خلال استغلال التفاهم مع الأمريكي، قصير المدى، و التفوق الصيني في آسيا وأفريقيا.