د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
فعلها الذكاءُ الاصطناعي. وجاء اليومُ الذي خُدع فيه العالم، بعدما صَنَع صحفيّةً استقصائيّة، لدرجةٍ يصعب معها اكتشاف أنّ هويّتَها مزيفة بالكامل، وقد تم اختراعها لأهدافٍ وغاياتٍ مختلفةٍ ضارّةٍ وخبيثة. أمّا المُخطّط والمُخرج والموجّه، فإسرائيليٌّ بامتياز.
وبعيدًا عن ظاهرة الأخبار والمعلومات الكاذبة التي تجتاح العالم هذه الأيام، فالمسألة لم تَعُدْ تَقتصرُ على قيام هذه التكنولوجيا بأدوار الصحافيّ لجهة كتابة نصٍّ بالنيابة عنه، أو الاستجابة لطلبه إنشاء صورة لأي موضوعٍ أو فكرةٍ قد يطلبها، بل إنّ الخطر أصبح داهمًا على مهنة الصحافة التي أصبحت سمعتها ومصداقيتها على المحكّ بعد هذه الفضيحة، زدّ عليها كوارث التضليل المتعمّد وغير المقصود التي تملأ وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يوميًّا، إلى حدٍّ أن معرفة الحقائق ومكافحة الكذب والتزييف، باتت تتطلّب من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية المرموقة جهودًا جبّارة مضاعفة، لتقديم محتوى مطابقٍ للقوانين والقواعد المهنية والأخلاقية للصحافة.
قصة الصحفية الاستقصائية الوهمية أنيتا بيتيت وعلاقتها بإسرائيل
قبل سنوات، لجأت إسرائيل إلى إنشاء شخصياتٍ افتراضية عبر الذكاء الاصطناعي لتقليد الصحفيين وتقديم السرديات بسرعةٍ وعلى نطاقٍ واسع.
والأكثرُ أهميةً، أنّ هذا الاتجاه تم توثيقه في تقريرٍ حديثٍ لمؤسسة "كونراد أديناور"، سلّط الضوء على كيفية استخدام الشخصيات الافتراضية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي لتقليد الصحفيين الاستقصائيين عبر أفريقيا.
كانت "أنيتا بيتيت" أبرزَ نموذجٍ تم اختراعه لتضليل الرأي العام عبر إخفاء هويتها الحقيقية.
في الظاهر، عرفتها وسائل الإعلام والناس معًا، كخريجةٍ من جامعة باريس–إيست كريتاي، الفرنسية–الغانية، بنت سمعةً طيبةً في كشف الظلم، وما تُسمّيه الخيانة.
لكن مهلاً، وهنا تكمن المفاجأة والكارثة الكبرى. فهذه الناشطة الإفريقية الجادة – وملفّها الحافل بمئات التحقيقات – ليست إلا شخصًا افتراضيًّا موجودًا على شاشات الحواسيب والهواتف الذكية.
ولتقديم روايةٍ مُقنِعة، حبكت إسرائيل مسرحيتها بحرفية.
بدايةً، نشرت بيتيت تقاريرها الاستقصائية واللاذعة على موقعها الإلكتروني الاستقصائي "من أجل الحقيقة"، وفي وسائل إعلامٍ أفريقيةٍ معروفة، بما في ذلك "لا ريفو دو لافريك" و"نت أفريك"، إضافة إلى وسائل إعلامٍ إقليميةٍ مماثلة. بعدها، ركّزت على استقطاب الجمهور، الذي وصل عددُه الإجمالي إلى أكثر من ٤.٢ مليون شخص، تم استقطابهم عبر تسليط الضوء على سياسيين يُزعم فسادهم وصلاتهم بالإرهاب والفساد المشتبه به في ثماني دولٍ أفريقية.
أكثر من ذلك، كشف تحقيقٌ سريٌّ استمر ستة أشهر، أجراه تحالف #StoryKillers، المُكوّن من 30 غرفة أخبار، استخدم خلاله تحليلًا مكثّفًا للأدلة الرقمية للتحقيق في صناعة التضليل العالمية السرّية، عن هويّة بيتيت، باعتبارها شخصيةً وهميّةً تمامًا، أو "تجسيدًا عميقًا"، أنشأته شركة استخباراتٍ إسرائيليةٍ خاصةٍ غامضة، تُدعى: "بيرسيبتو إنترناشونال"، لتشويه سمعة المعارضين وتقويض الانتخابات.
المثير، أنّ شركة Percepto زعمت أنّها تقمّصت شخصية أنيتا الزائفة، وغيرها من "الروبوتات المُقنّعة"، بالإضافة إلى ما يُعرَف بـ"المنصات العميقة"، مثل وسائل إعلامٍ مزيّفةٍ أو مجموعات مجتمعٍ مدنيٍّ وهمية، من أجل التلاعب سرًّا بالانتخابات أو لتشويه سمعة منظماتٍ كبرى، مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) في بوركينا فاسو، حيث قامت Percepto بتلفيق مزاعم بأنّ المنظمة تتعاون مع إرهابيين جهاديين.
وتعقيبًا على ذلك، قال روي بورستين، المؤسس الشريك والرئيس التنفيذي لشركة Percepto، في سلسلةٍ من الاجتماعات التي سُجّلت سرًّا مع صحفيين متخفّين من تحالف StoryKillers: "نُدير حاليًّا عشرات الأصول غير المنسوبة على الإنترنت في أفريقيا، وفي أفريقيا الفرنكوفونية تحديدًا".
وأضاف: "السرُّ في نجاحنا هو استعمال الصور الرمزية في جمع المعلومات الاستخباراتية… أصولُنا الرقمية قادرة على التواصل، وعلى التفاعل مع الأهداف".
اللافت، أنّ ما قاله بورستين يكشف بوضوحٍ خطورة ما يُعرف بـ"الأفاتار العميق" أو Deep Avatar، إذ شرح قائلًا: "الأفاتار العميق هو كيانٌ على الإنترنت يبدو حقيقيًّا، لكنه في الواقع ليس كذلك. وإذا تفاعل أحد أفاتاراتنا العميقة معك، ستكون متأكّدًا أنّه شخصٌ حقيقي".
النجاحات الصحفية لبيتيت الوهمية
قامت شركة بورستين بتشغيل هذه الصحافية الاستقصائية الافتراضية، منذ عام 2019.
فسيرتها الذاتية قُدّمت إلى العالم بشكلٍ عام، وللأفريقيين خصوصًا، على أنّها مواطنةٌ فرنسية، تعيش في باريس، لكنها بالطبع مجرّد "أفاتار". وتحدث بورستين عن: "عملها بالفعل في ثلاث دولٍ مختلفة، على ثلاثة مشاريع مختلفة: واحد في فرنسا، وآخران في بلدين مختلفين في أفريقيا – أحدهما فرنكوفوني، والآخر أنغلوفوني".
يدّعي بورستين أنّ "أنيتا بيتيت" كانت فعّالة إلى درجة أنها أثارت ردّ فعلٍ عنيف، فيقول: "لقد نشرتْ مقالةً تهاجم أحد خصوم عملائنا، ويبدو أننا ضغطنا على وترٍ حساس، لأنّه بعد حوالي 24 ساعة من نشرها للمقالة، تعرّض موقعها الإلكتروني لهجومٍ سيبراني من نوع (DDoS)، لاحظه عددٌ كبيرٌ من خبراء الأمن السيبراني".
كما اكتسب اسم أنيتا انتشارًا واسعًا على منصة "تويتر" سابقًا في فرنسا وفي بلدانٍ معيّنةٍ أخرى. ففي السنوات الأربع الماضية، تفاعلت هذه الصحفية الوهمية مع عددٍ كبيرٍ من الصحافيين، بما في ذلك من فرنسا، ومن ناطقين بالفرنسية في الشتات خارج فرنسا.
اللافت، أنّ شركة Percepto كانت قد عرضت استخدام روبوت "بيتيت" إلى جانب شخصياتٍ رمزيةٍ أخرى (أفاتارات) يمكنها المساعدة في تضخيم أيّ محتوى يتم نشره.
"أنيتا بيتيت" واختلاق رواية جذورها الإفريقية
في الواقع، كانت السيرة الرقمية للشخصية الوهمية "أنيتا بيتيت" مُتقنةَ الصّنع، إذ بدأت بتدويناتٍ عاطفية على مدونتها الشخصية Ghanaland Journal، تتحدّث فيها عن سعيها لإعادة التواصل مع جذورها الإفريقية.
ولهذا كتبت بلغة عاطفية عن عزفها الموسيقي في المطاعم لجمع المال اللازم للسفر إلى غانا قائلة: «وُلِدتُ في فرنسا من أمٍّ غانية وأبٍ فرنسي. للأسف، لم أعرف والدتي حقّ المعرفة، إذ اختفت حين كنتُ صغيرةً جدًا.
من الصعب أن تكبر دون وجود الأمّ إلى جانبك».
وتذكر "أنيتا" الافتراضية، في إحدى تدويناتها أنّها زارت أفريقيا من قبل، في رحلةٍ إلى الكاميرون لزيارة صديقتها "سونيا"، لكنّها تؤكّد أنّ: «قلبي وعقلي مع غانا».
في المحصّلة:
يُؤكّد نموذج "أنيتا" بما لا يدع مجالًا للشكّ، أنّ "الأفاتار العميق" لم يكن مجرّد أداةٍ صامتةٍ لبثّ المعلومات، إنما لعب دورًا نشطًا ومتفاعلًا داخل المشهد الإعلامي، حتى وصل إلى إثارة ردود فعلٍ حقيقية، ما يزيد من خطورة هذا النوع من الخداع في البيئة الإعلامية والسياسية الحديثة. وبناء على ذلك نقول لجميع العاملين في مهنة الصحافة : احذروا "الأفاتار"...