د.رائد المصري - خاصّ الأفضل نيوز
تحقَّقت كل الإنجازات الداخلية تقريباً في لبنان، خلال الأشهر الأولى من عمر العهد والحكومة الجديدين، لكن لا تزال ملفات أخرى وازنة معلّقة، بانتظار تطورات الوضع الإقليمي ومسار الحلول فيه، من معالجة وضع الجنوب، إلى دمشق وطهران، مروراً بغزة فلسطين، فالمواقف الداخلية من بعض وزراء الحكومة ورئيسها، ومن القوى السياسية، جاءت لتواكب مسار الوضع الإقليمي ومتطلباته التصعيدية، ومنها مفاوضات وقف الحرب على غزة، وتسوية الملف النووي الإيراني، والاتفاق الأميركي مع اليمن، وصولاً إلى هذا الزخم الإقليمي والدولي المنفتح على سوريا، والذي صار من أولويات البلدان العربية والغربية، بعد أن استجابت حكومة سوريا الجديدة لكل المطالب والشروط، وهو أمر لا قدرة للبنان على تحقيقه، بسبب التنوّع والانقسام السياسي فيه، وحجم الخلافات والتباينات، واختلاف الأولويات بين أركان الحكم، والذي تظهَّر مؤخراً بعد أن اشتدَّ عصب الأحزاب الحاكمة عقب صدور نتائج الانتخابات البلدية.
التوجُّه العربي صار حاسماً لترتيب أوضاع سوريا أكثر، على حساب لبنان ومِلفاته الساخنة، بعد جراح حرب الطوفان، أولها وأخطرها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للنقاط المحتلة والتخوم في الجنوب، فوحدها واشنطن قادرة رغم محاولات الدول الأخرى العربية ومعها فرنسا، المساهمة في تعجيل الانسحاب الإسرائيلي، وتنفيذ آلية وقف إطلاق النار ونشر الجيش اللبناني، في كامل منطقة الجنوب والقرى المتاخمة جنوبي نهر الليطاني، لكن إنهاء هذا الاحتلال مرتبط بشروط غير قابلة للتنفيذ، من قبل لبنان ولا من قبل إسرائيل، لأن كل طرف ترتبط شروطه بمسار وضع إقليمي ذاهب نحو عقد تسويات وحلول سلمية تعيق عملية التنفيذ، حيث لبنان يطالب بإنهاء الاحتلال، والكيان الإسرائيلي يطالب بإنهاء الحزب والمقاومة ونزع سلاحها، والتوجه إلى مفاوضات تطبيعية وعلى مستويات عالية، في حين أن بيروت لا تزال متمسكة بتنفيذ اتفاق الهدنة، لتحقيق الاستقرار الأمني على الحدود الجنوبية.
ويبدو من خلال عمليات توسيع الاحتلال الإسرائيلي لسيطرته جنوب سوريا، والاعتداءات المتواصلة على كامل الأراضي في هذا البلد من خلال الغارات اليومية، ورفضه الانسحاب من لبنان، واستمراره بعمليات القتل، كل ذلك يشير إلى أن أية تسوية لإنهاء الأعمال العسكرية في لبنان وسوريا، هي بعيدة كل البعد من التحقق، ورهن بما ستقرره واشنطن في الإقليم بحسب أولوياتها، وبما ستفرضه على تل أبيب، بعد أن جمَّدت جبهة اليمن في الخليج والبحر الاحمر، فأولوية الولايات المتحدة اليوم، هي إيران ثم سوريا المقبلة ولو مجبرة بالتوجه نحو اتفاقات التطبيع مع إسرائيل.
في المقابل تتراكم الأزمات الدولية والإقليمية على إسرائيل، فلم تتركز حال الكيان ونُخبه السياسية، بعد زلزال زيارة الرئيس ترامب للخليج، ولم تهضم في تل أبيب ما حقّقته المملكة العربية السعودية من إنجازات، ومن دور لها في رسم الخريطة الجيوسياسية الجديدة في المنطقة، ومن مباركة ترامب لدور تركيا، وتسليم أنقرة برعايتها للنظام الجديد في دمشق، إضافة إلى الدور الكبير للرياض في رفع العقوبات عن سوريا، لتحقيق استقرارها ومنع تدهورها إلى حرب أهليّة، تجعلها مفتوحة لتدخلات خارجية أكبر، وما زاد القلق كثيراً، هو عملية جديدة لتوازن الرعب النووي الجديد بين الهند وباكستان، الذي تجلَّى في الأحداث والحرب الأخيرة بين البلدين، رغم التباين والاختلاف في سياسة كل منهما، حيث تنظر تل أبيب إلى هذا المثلث لدول كالسعودية وتركيا وباكستان ومصر من خلفهم، ليشكل عامل يقلب فيه التوازن في الشرق الأوسط، مهدداً التفوق الذي تمتلكه إسرائيل، وتعمل على تعزيزه والحفاظ عليه، ولهذا راهنت على إقامة شراكات استراتيجية مع الهند، وفي تركيز على قوتين نوويتين لمواجهة هذا التوازن، الذي تمثله الدول الثلاث الكبرى الإقليمية.
لقد اشتدَّ رهان تل أبيب على الهند، بعد إعلان قمّة مجموعة العشرين في نيودلهي في أيلول 2023 عن ممرّ التجارة الخلفيّ، بدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة، الهادف لربط أوروبا والشرق الأوسط والهند، وتقليص النفوذ الجيوسياسي الصيني عبر طريق الحرير، وتضاعف الرهان أيضاً على هذا الممرّ بأنه يجعل من إسرائيل واجهة أوروبا على آسيا، ويؤدّي لانخراطها الكامل في اقتصاد المنطقة، لكنها اصطدمت بموقف وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يمسك بأهمّ مفاتيح هذا الممرّ عبر الجغرافية السعوديّة والموقع المتميز الذي تحظى به المملكة، فلا يبدو أن الرياض مستعدة لتقدم لحكومة نتنياهو أيّ امتياز اقتصادي أو أمني، قبل انطلاق المسار السياسي الذي يؤدّي إلى حلّ الدولتين.
إسرائيل اليوم تراجع حساباتها، وتقرأ التحوّلات الأخيرة بما يتعلّق بدورٍها في إعادة رسم خريطة المنطقة، فرهانات نتنياهو باتت بلا جدوى وطائل، وهو ما دفع الإسرائيليّين إلى نقل رهاناتهم إلى الهند، بزعامة ناريندرا مودي الذي يملك ماضيًا معاديًا للمسلمين، وحليفًا مؤتمنًا يتقاسم معهم العداء لدول سنّية وازنة في المنطقة، بدأت تطرح أوراقها بقوة، وتفرض شروطها، وتعقد مؤتمرات لإنضاج تسوية للفلسطينيين، فأحد أهم الدروس بالنسبة لإسرائيل، هو التوصل إلى مستوى تحالف دفاعيّ متبادل، وبين البحث عن شراكة استراتيجية مع الهند، وتبديد فرص السلام العادل في المنطقة، يسود ضياع في إسرائيل وتخبّط ، فهذه المرة الأولى التي تشعر بها تل أبيب، بأنّها ليست اللاعب الذي يملك في يده مفاتيح مستقبل المنطقة.
من هنا ترى مصادر متابعة، أن لا حلولَ قريبة في لبنان، ومع النتائج التي ترتَّبت على الحرب، تشكَّلت أوضاع سياسية في الدول التي على صلة بلبنان، فما يجري في أروقة البيت الأبيض، من تشكيلات في الإدارة، مرتبط بخلافات أساسية داخل الفريق الرئاسي حول ملفات استراتيجية، وهي على طرفي النقيض، حيث يُعد المِلف اللُّبناني واحدا من تلك الملفات العالقة، وبحسب مصادر أميركية مضطلعة، حصلت عليها شبكة "الأفضل نيوز"، فإنَّ الرد الإسرائيلي على المبعوث الأميركي، لم يكن مشجعاً، مع إصرار تل أبيب بالمستوى العسكري والسياسي على مواقفها، معتبرة أنها تعمل بتفرد وبالتوازي مع القرار الدولي والغطاء الأميركي، لاستكمال استهداف حزب الله، ووفقا لمصادر لبنانية، فإن قيادة الحزب أعادت ترتيب أولوياتها، بما يتوافق مع اتفاق وقف النار حصرياً، و بعيداً عن أي تفاهمات جانبية، مهما كان نوعها أو أطرافها، تبدأ بانسحاب إسرائيلي كامل من كلِّ النقاط المحتلة، مع وقف كامل للأعمال العدائية التي تقوم بها، من غارات وقصف في منطقة جنوب اللّيطاني والعمق، وما يستتبع ذلك من وقف خرق الطائرات الحربية، وطائرات الاستطلاع للمجال الجوي اللبناني، وإطلاق سراح جميع الأسرى اللبنانيين، من مدنيين ومقاتلين.
ففي لبنان، جاءت إدارة من خارج زمن ما قبل الحرب، وكان البلد ينتظر عودة مورغن أورتاغورس، فصارت على وشك مغادرة موقعها كمسؤولة عن ملف لبنان في الخارجية الأميركية، ومع إبعاد شخصيات يهودية عن موقع القرار في دوائر الشرق الأوسط الأميركية، يتبدَّل المشهد الإقليمي والدولي كل يوم، فإسرائيل التي تقاتل في غزة دون أفق، وتستقوي على لبنان، تفقد ميزة الأفضيلة لدى ترامب، وتثبت في كل مرة أنها معزولة لا يمكن أن تتماهى مع سياسة الإدارة الجديدة للبيت الأبيض، فيما الخوف يكمن من تمديد الــ "ستاتيكو" في لبنان، إلى ما لا نهاية، وهو وارد بكل الأحوال، بحسب المعطيات المتوافرة والنكايات السياسية بين الأطراف كافة.