فقد لبنان اليوم أحد أبرز رموزه الثقافية والفنية، برحيل الفنان والمسرحي والموسيقي زياد الرحباني، الذي توفي عن عمر ناهز 69 عامًا، بعد مسيرة استثنائية ترك خلالها بصمة لا تُمحى في الوجدان اللبناني والعربي.
زياد، الذي وُلد في الأول من كانون الثاني عام 1956 في بلدة أنطلياس، هو الابن البكر للفنانة السيدة فيروز والفنان الراحل عاصي الرحباني. ومنذ سنواته الأولى، عُرفَ بحمله جينات الفن والتمرّد، ليشق طريقًا خاصًا به بعيدًا عن النمط التقليدي الذي اتّبعه الأخوان رحباني، واضعًا بصمته في المسرح والموسيقى والكتابة السياسية الساخرة.
انطلق زياد في مسيرته بعمرٍ مبكر جدًا، حين لحن أول أغنية له بعنوان “ضلك حبيني يا لوزية” وهو لا يزال في السادسة عشرة. لكنه برز أمام الجمهور العريض حين كتب ولحن أغنية “سألوني الناس” لوالدته فيروز عام 1973، وهي الأغنية التي غنّتها خلال غياب عاصي الرحباني إثر أزمة صحية، فحملت في كلماتها وموسيقاها وجعًا مزدوجًا -شخصيًّا وفنيًّا.
لاحقًا، قدّم زياد سلسلة من الأعمال المسرحية الجريئة واللافتة، خرجت عن السياق الغنائي الرومانسي الذي ساد في زمنه، واتّخذت طابعًا نقديًا ساخرًا جسّد من خلاله قضايا الفقر، الفساد، الحرب الأهلية، وازدواجية المجتمع اللبناني.
كانت أولى مسرحياته “سهرية” عام 1973، تبعتها أعمال أيقونية مثل “نزل السرور”، “بالنسبة لبكرا شو؟”، “فيلم أميركي طويل”، “شي فاشل”، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، و“لولا فسحة الأمل”. كلها أعمال قدّمت رؤى سياسية واجتماعية بعيون الشارع، لا من فوق منصّات القرار.
مسرح زياد لم يكن مجرد خشبة، بل تحوّل إلى مساحة وعي جماعية تفضح التناقضات وتسخر من المسلّمات، مزج فيه النكتة بالحزن، واليأس بالأمل، والكلمة البسيطة بالرسالة العميقة. كان جمهوره من كل الطبقات: من المثقفين إلى الناس العاديين الذين وجدوا فيه صوتًا يشبههم ويتكلم لغتهم.
أما على صعيد الموسيقى، فقد طوّر زياد الرحباني لونًا خاصًا، متأثرًا بالجاز والموسيقى الشرقية والغربية، مزجها بذوق فريد في أعماله مع فيروز مثل: “عودك رنان”، “كيفك إنت؟”، “أنا عندي حنين”، و“بكتب اسمك يا حبيبي”، كما أصدر أعمالًا موسيقية خاصة به منها: “هُدوء نسبي”، “أنا مش كافر”، و“مونودوز”. كل عمل كان تجربة موسيقية وفكرية كاملة، لا تخلو من البُعد السياسي أو الوجداني.
إلى جانب أعماله الفنية، تميز زياد أيضًا بمشاركته في برامج إذاعية حملت توقيعه النقدي الساخر، أبرزها “بعدنا طيبين، قول الله” و“العقل زينة”، حيث فتح النار على السياسيين، وسخر من الشعارات الجوفاء، واستفزّ المستمع ليعيد التفكير في كل شيء.
سياسيًا، لم يُخفِ زياد ميوله إلى اليسار، وكان طوال حياته مناصرًا لقضايا العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ومواقفه الجريئة لطالما أثارت الجدل، لكنه بقي ثابتًا في قناعاته، غير معنيّ بالشعبوية أو التنازلات.
برحيله، تُطوى صفحة من أجمل ما كتبه العقل اللبناني المعارض. لم يكن زياد فنانًا تقليديًا، بل حالة فكرية وإبداعية متكاملة، جمعت بين الرفض والتحليل والابتكار، ووقفت في وجه السائد والسطحي والمُزيّف.
ودّع لبنان اليوم صوتًا لطالما قال ما لم يُقَل، وكتب ما خاف منه الكثيرون، وغنّى للناس لا للمنابر. ومع أن جسده رحل، يبقى إرثه الفني والمسرحي حيًا، يُقرأ ويُشاهد ويُستعاد كلما أردنا أن نتذكر ما تبقّى من عقل وكرامة في هذا البلد.