د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
تعالوا لنحلم سويًا. في لبنان، وبعد سنوات قليلة، يمكن أن نرى جميعًا في مدننا أو بلداتنا، وحتى قرانا النائية، شاحنة متوقفة في ساحة أو زاوية أو قطعة أرض صغيرة، ومن الطبيعي ألا نُبالي بها. لكننا (وهنا الصدمة) ما نلبث أن نكتشف لاحقًا أن هذه الآلية التي لم تُثر اهتمامنا بداية، هي عبارة عن مفاعل نووي متحرك يُستخدم لتوليد الكهرباء.
لكن مهلاً، لمَ اليأس؟ فهذا الحلم أصبح واقعًا في الولايات المتحدة ــ بالطبع، سيبقى مجرد خيال عند اللبنانيين بسبب مصالح أصحاب المولدات وداعميهم ــ حيث تتنافس ست شركات لتطوير مفاعلات صغيرة، لا تشبه على الإطلاق مشاريع الطاقة الضخمة المنتشرة على ضفاف الأنهار والسواحل في أنحاء الولايات المتحدة، والتي تتميّز بأبراج التبريد وهياكلها الخرسانية الضخمة.
الكهرباء بالشاحنات النووية
عمليًا، تم تصميم هذه المفاعلات الصغيرة الحجم، التي تعادل في حجمها منصة شاحنة مسطحة (ذات سطح تحميل مستوٍ ومكشوف، ومن دون جوانب أو سقف)، لإنتاج طاقة منخفضة تصل إلى ميغاواط واحد فقط، ما يعادل تقريبًا واحدًا من ألف من قدرة المفاعل النووي التقليدي الكبير. وتكفي هذه الكمية من الطاقة لتشغيل 1000 منزل، أو مصنع واحد، أو حتى جزيرة نائية يملكها ملياردير.
أكثر من ذلك، لا تتطلب هذه المفاعلات عادةً استخدام الماء كمادة للتبريد، إنما غاز الهيليوم، أو الملح المنصهر، أو أنابيب معدنية قلوية مبردة بالهواء لنقل الحرارة بعيدًا عن قلب المفاعل.
أما بالنسبة للوقود، فهي تعتمد على نوع جديد من كبسولات اليورانيوم أعلنت وزارة الطاقة الأميركية أنه "مضاد للانصهار". وبالتالي، يُعد هذا خيارًا جذابًا للعملاء في المناطق النائية، الذين يبحثون عن بدائل أرخص وأنظف لمولدات الديزل وغلايات الفحم (أجهزة تُستعمل لحرق الفحم بهدف تسخين الماء وتحويله إلى بخار، من أجل توليد الكهرباء، أو للتدفئة، أو لتشغيل معدات صناعية ثقيلة).
ضع في اعتبارك، أن هذه المفاعلات النووية الصغيرة، مع التوربينات وأجهزة التشغيل الخاصة بها، يمكن نقلها وتجميعها بسهولة في الموقع، وكأنها لعبة تركيب كبيرة جاهزة للتوصيل. ولا تحتاج هذه المحطة الصغيرة سوى لمساحة محدودة جدًا، لا تتعدى فدانين من الأرض، أي ما يعادل ملعبين صغيرين لكرة القدم.
ماذا عن التحديات التي تواجه صناعة المفاعلات النووية الصغيرة؟
في الواقع، لا يُخفي بعض العلماء الأميركيين قلقهم وهواجسهم من الأخطار التي قد تنجم عن هذا الأمر، حيث يرون أن ادعاءات الصناعة والحكومة بشأن السلامة مبالغ فيها إلى حد كبير. ويؤكدون أيضًا أن تسرّبًا إشعاعيًّا لا يزال من الممكن أن يحدث نتيجة انفجار أو خلل تقني يؤدي إلى تمزق مفاعل صغير. كما يشيرون إلى أن الولايات المتحدة، وبعد عقود من الفشل والإحباط، لم تتمكن بعد من إيجاد حل للتخلص الدائم من النفايات النووية العالية الإشعاع.
وتعقيبًا على ذلك، قال إد لايمان، مدير قسم سلامة الطاقة النووية في اتحاد العلماء القلقين: "فكرة أننا سنبدأ في نقل هذه المفاعلات بالشاحنات في جميع أنحاء البلاد، ووضعها في المناطق المأهولة بالسكان بجانب مراكز البيانات والمصانع، من دون أي تخطيط طوارئ خارج الموقع، هي ببساطة جنون. هذا الأمر لا يبرره العلم".
ليس هذا فحسب، فثمة تحدٍّ آخر يتمثل في العثور على اليورانيوم العالي التخصيب اللازم لتشغيل المفاعلات الجديدة. فهذا النوع من الوقود لا يُنتج حاليًا في الولايات المتحدة، لذا تُبدي الشركات ترددًا في الاستثمار في منشآت تصنيعه ما لم تتأكد من أن المفاعلات المصغّرة قابلة للتطبيق وسيتم نشر عدد كبير منها.
مع ذلك، كانت وزارة الطاقة، في ظل الإدارات الجمهورية والديمقراطية، قد روّجت لهذه التقنية كبديل فعال للطاقة النظيفة عند الطلب. والآن، تُجري الحكومة اختبارات في مختبر مُحصن في أيداهو على تصاميم متعددة ومتنافسة لمفاعلات دقيقة.
الجدير بالذكر أن مفهوم مفاعل صغير وآمن، خالٍ من المخاطر المالية والصحية العامة، والتحديات الهندسية، والآثار البيئية السلبية للنماذج القديمة، لطالما أثار اهتمام الصناعة النووية لعقود. ولذلك، تسعى هيئة التنظيم النووي الأميركية إلى تبسيط إجراءات الموافقة على المفاعلات الصغيرة، مشيرةً إلى أن "انخفاض مستويات المخاطر وتحسين ميزات السلامة" قد يستدعي اتخاذ إجراءات سريعة. كما أن مخاوف المجتمع المحلي ستؤخذ أيضًا بعين الاعتبار في قراراتها.
ارتفاع الطلب على المفاعلات النووية الصغيرة
غني عن التعريف، أنه في صناعة الطاقة النووية الأميركية، التي تشتهر بإطلاق وعود كبيرة وتنفيذ ضعيف — حيث تجاوز آخر مفاعلين تجاريين دخلوا الخدمة ميزانيتهما بنحو 20 مليار دولار وتأخّرا عن الجدول الزمني بسبع سنوات — كان يُنظر إلى المفاعل النووي التجاري المصغّر على أنه خيار مكلف، وغير عملي، وخطير جدًا لتوزيعه على نطاق واسع. غير أن الطلب المتسارع، المدفوع إلى حد كبير بالاحتياجات الهائلة لمطوري الذكاء الاصطناعي، يدفع كبار مستهلكي الطاقة إلى إعادة النظر بهذه الصناعة.
وبناءً على ذلك، وبحلول العام المقبل، سيتم تركيب ما يصل إلى ثلاثة مفاعلات نووية مصغّرة مختلفة في مبنى داخل المختبر الوطني في أيداهو (يتميز بسقف على شكل قبة ومدعّم بالخرسانة، ومصمَّم لتحمّل الظروف القاسية)، كمرحلة أخيرة لتجريب هذه التكنولوجيا الجديدة ومعالجة أي خلل قبل منحها التراخيص وبيعها تجاريًا.
الأكثر أهمية أن هناك ما لا يقل عن خمس شركات، تتنافس فيما بينها لتكون أول من يطرح هذه التكنولوجيا في السوق، وقد بدأت بالفعل في توقيع صفقات مع عملاء محتملين، وهي: Radiant راديانت، Westinghouse ويستنغهاوس (العريقة في تصنيع المنتجات النووية)، وشركة المقاولات العسكرية BWXT في ولاية فرجينيا، التي دخلت في شراكة مع شركة Tata.
اللافت أن ازدهار الاهتمام التجاري بالمفاعلات الصغيرة الدقيقة، سببه إلى حد كبير التطورات في ما يُعرف بوقود TRISO، وهو اختصار لعبارة TRi-structural ISOtropic. ووفقًا لوزارة الطاقة، يُغلّف هذا الوقود اليورانيوم في حبيبات بحجم بذور الخشخاش، مُغطاة بطبقات من مادة عازلة للحرارة تمنع الإشعاع من التسرّب إلى الخارج حتى في أقسى الظروف، كالحرائق أو الزلازل.
وتعليقًا على ذلك، قال إريك نيغارد، مدير تطوير المنتجات في مركز BWXT للابتكار الجديد في لينشبورغ، فرجينيا: "إنه يمنع المواد الضارة من التسرّب إلى الخارج"، وأضاف: "أنت تبتكر نوعًا من الاحتواء كان في السابق يتطلّب هياكل خرسانية ضخمة، والآن تضغطه ليصبح بحجم رأس دبوس".
في المحصلة:
داخل المقر الجديد والواسع لشركة BWXT في لينشبورغ، تعمل الشركة في قاعة كبيرة على تطوير مفاعل نووي صغير يمكن استخدامه في رحلات الفضاء وإطلاق الأقمار الصناعية. وتبعًا لذلك، تقول كيت كيلي، رئيسة قسم التكنولوجيا المتقدمة في الشركة، إن "هذا المفاعل قد يُستخدم أيضًا لتوفير الكهرباء على سطح القمر، سواء لدعم بعثات البشر إلى هناك، أو لإنشاء اقتصاد تجاري قمري في المستقبل". وعليه، لمن يسأل: أين لبنان من هذا التطوّر؟ اطمئنّوا... فقادته مشغولون بتحديث جدول تقنين الكهرباء!"