د.أكرم حمدان - خاص الأفضل نيوز
منذ فترة، كتبت مقالاً حول الاعتماد أو إمكانية الاعتماد على الغرب لمواجهة الغطرسة الإسرائيلية التي باتت لا حدود لها في استباحة عالمنا العربي والإسلامي، إضافة إلى حرب الإبادة التي تقودها ضد الشعب الفلسطيني، وها هي الخطوات والإجراءات العملية من قبل بعض الحكومات الغربية، باتت حقيقة وهي تُحاكي الحراك الشعبي في تلك الدول، ما يُحتم علينا التوقف أمام هذا الواقع وتوجيه الشكر والتقدير لتلك الحكومات وشعوبها التي تخطت حكوماتنا وشعبنا بأشواط كبيرة.
وفي مقدمة تلك الدول والحكومات، إسبانيا التي أعلن المدعي العام فيها، عن فتح تحقيق حول جرائم "إسرائيل" في غزة.
وقد جاءت خطوة وقرار المدعي العام الأسباني، بعدما ألغت الحكومة الإسبانية عقدًا تناهز قيمته 700 مليون يورو لشراء قاذفات صواريخ إسرائيلية التصميم، على خلفية قرار بحظر إبرام عقود تسلح مع إسرائيل ضمن خطوات متوالية لفرض مزيد من الضغوط على كيان الاحتلال بسبب حربه على قطاع غزة.
وكان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز أعلن في وقت سابق عن "تدابير جديدة تهدف إلى إنهاء الإبادة الجماعية في غزة، تضمنت تعزيزًا قانونيا لحظر عقود الأسلحة مع "إسرائيل"، الذي كانت تطبقه البلاد بحكم الأمر الواقع".
وفي التاسع من الشهر الحالي، تم رسميا إلغاء عقد آخر يشمل شراء 168 قاذفة صواريخ مضادة للمدرعات، كان من المقرّر تصنيعها في إسبانيا بموجب ترخيص من شركة إسرائيلية، وبلغت قيمة العقد 287.5 مليون يورو.
وبحسب وسائل إعلام إسبانية، فإن الحكومة الإسبانية وضعت خطة تعمل على تطبيقها حاليًا للتخلص من الأسلحة والتكنولوجيا الإسرائيلية الموجودة لدى قواتها المسلحة.
وجاءت حزمة العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها مدريد على تل أبيب، لتحول الأزمة بين المملكة والكيان، من خطاب سياسي إلى اشتباك دبلوماسي حادّ، وصل إلى حدّ تبادل الإهانات الشخصية بين كبار مسؤولي الجانبَين، ومنها وصْف وزير خارجية الاحتلال، جدعون ساعر، رئيسَ الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، بأنه "معادٍ للسامية، وكاذب".
وقد تطورت المواجهة بين الطرفين لتنتقل من أروقة السياسة، إلى الساحات الرياضية والثقافية العالمية، حيث تقود مدريد حملةً مركزة لحظر تل أبيب في المنافسات الدولية، بدءاً من مسابقة "يوروفيجن" الغنائية، وصولاً إلى جميع المحافل الرياضية الدولية.
وتستند إسبانيا في ذلك إلى دعم شعبي وسياسي أوروبي متزايد، ولا سيما بعد صدور تقارير خبراء ومقرّرين خاصّين في الأمم المتحدة، أكّدوا أن ما يجري في غزة حرب إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين.
وأدى التوتر في العلاقة بين الطرفين إلى استدعاء مدريد لسفيرتها من تل أبيب، ما يعني أن العلاقات بين الجانبين دخلت مرحلة القطيعة الفعلية.
وكان سانشيز دعا إلى استبعاد إسرائيل من جميع المنافسات الرياضية الدولية، "حتى تنتهي وحشيتها". وتساءل أمام منسوبي حزبه الاشتراكي: "لماذا طُردت روسيا بعد غزو أوكرانيا ولم تُطرد إسرائيل بعد غزو غزة؟"، معتبراً أنه لا يمكن تل أبيب "الاستمرار في استخدام أيّ منصّة دولية لتبييض صورتها".
هذا المسار جعل من إسبانيا رأس الحربة في تيار أوروبيّ يهدف إلى استخدام "القوّة الناعمة" للثقافة والرياضة، كأدوات ضغط فعّالة لوقف الإبادة.
وقد شكّلت أحداث سباق الدراجات الهوائية، نقطة تحوّل، بعدما أُجبر منظّمو أحد أعرق سباقات الدرّاجات الهوائية في العالم على إلغاء مرحلته النهائية في مدريد، عندما أغرق أكثر من 100 ألف متظاهر مؤيّد لفلسطين مسار السباق، مستهدفين فريق "إسرائيل-بريميرتك".
وتبع ذلك، تصويت مجلس إدارة "هيئة الإذاعة والتلفزيون الإسبانية" (RTVE) لصالح مقاطعة مسابقة "يوروفيجن" للأغاني لعام 2026، في حال مشاركة إسرائيل فيها.
وبذلك، تكون إسبانيا الدولة الخامسة التي تهدّد بالانسحاب من المسابقة، بعد هولندا وإيرلندا وسلوفينيا وأيسلندا، علماً أنها أول دولة من مجموعة "الخمسة الكبار" (إلى جانب بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وإيطاليا)، المموّلين الرئيسيين لـ"يوروفيجن"، تتّخذ هكذا إجراء، ما من شأنه أن يسلّط ضغطاً ماليّاً وسياسيّاً هائلاً على "اتحاد البث الأوروبي" (EBU).
وشملت الإجراءات الإسبانية أيضاً، منع السفن التي تحمل وقوداً للجيش الإسرائيلي من الرسو في الموانئ الإسبانية، وحظر استخدام الطائرات الحكومية التي تنقل موادَّ دفاعية إلى إسرائيل للمجال الجوي الإسباني، بالإضافة إلى منع دخول "جميع الأشخاص المتورّطين بشكل مباشر في الإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في غزة" الأراضي الإسبانية.
وقد اكتسب الموقف الإسباني زخماً على مستوى الاتحاد الأوروبي، إذ دعت رئيسة المفوّضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلايين، إلى تعليق اتفاقية التجارة الحرة والدعم الثنائي مع إسرائيل، مشيرة إلى "المجاعة التي هي من صنع الإنسان" في غزة، ومعربة عن أسفها لِما سمّته "عجز أوروبا المؤلم" عن إيجاد ردّ مناسب على تصرفات إسرائيل، وهو ما يُظهر أن موقف مدريد المتشدّد لم يَعُد معزولاً.
وتستند مواقف رئيس الحكومة الإسبانية إلى استطلاعات للرأي أظهرت أن 82% من الإسبان يعتقدون أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، ويقولون إنه يعبّر في إجراءاته عن ضمير الأمّة الإسبانية، ويستجيب للالتزامات الأخلاقية في وجه "الهمجية".
ألا يستحق منا بيدرو سانشيزو حكومته وشعبه الشكر والتقدير وهو يتصدر تيّار أوروبي يهدف إلى فرض عزلة على إسرائيل سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وثقافياً ورياضياً، على الرغم من أن هذه الاستراتيجية التصادمية ستضع مدريد في مواجهة ضغوط هائلة من واشنطن، لكنها، سترسّخ دورها كقائدة لمعركة دولية يمكن أن تتسبّب بعزلة خانقة لإسرائيل.
كذلك لا بد من كلمة شكر للرئيس الأيرلندي مايكل دي هيغينز الذي قال: "إن إسرائيل والدول التي تزودها بالأسلحة يجب أن تستبعد من الأمم المتحدة"، وأضاف: "يجب ألا نتردد بعد الآن في إنهاء التجارة مع مرتكبي هذه الجرائم ضد إخواننا البشر".
واستنكر هيغينز صمت "بعض أقوى دول الاتحاد الأوروبي" إزاء ما ترتكبه إسرائيل من إبادة وتجويع بحق سكان غزة.
التاريخ سيُسجل....