نبيه البرجي - خاصّ الأفضل نيوز
أي سلام ذاك مع إسرائيل التي تنتفي فيها المفاهيم الفلسفية، والأخلاقية، وحتى المفاهيم الكلاسيكية للدولة، وهي المصابة باللوثة الإسبرطية، حيث إن صياغة السياسات والاستراتيجيات تستند إلى خلفية تلمودية لا ترى في الآخرين (الغوييم) سوى كائنات بشرية بأرواح حيوانية، لتأخذ تلك الأشكال فقط من أجل عدم إخافة سادتهم اليهود.
لدى سقوط الإمبراطورية السوفياتية، وضع المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وقد لاحظ فيه أن التعليب الأيديولوجي يعني العودة بالمجتمعات إلى زمن الكهوف. فكيف الحال حين نكون أمام ذلك التعليب الأيديولوجي بالديناميكية الغيبية التي تستتبع، تلقائيًا، أوديسة الدم، أو "فانتازيا الدم" بحسب عالم السياسة الفرنسي إيمانويل تود؟
قليلون، للغرابة، توقفوا عند كلام الرئيس دونالد ترامب حين قال إنه أنهى صراعًا عمره 3000 عام، أي أنها العودة اللامنطقية واللاتاريخية إلى مملكة إسرائيل القديمة التي ما لبثت أن تحولت إلى مملكتين: مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب، لتندلع حرب طويلة بينهما انتهت باندثارهما مثلما انتهت ممالك لا تُحصى عبر الأزمنة. ما يعني أن الرئيس الأمريكي يتبنى كليًا نظرية الحاخامات، كما لو أن التاريخ اليهودي في المنطقة لم ينتهِ بسقوط مملكة إسرائيل بيد الملك الآشوري سرجون الثاني عام 722 قبل الميلاد، وسقوط مملكة يهوذا بيد الملك البابلي نبوخذنصر عام 587 قبل الميلاد.
ما فعله الوافدون الأوروبيون إلى العالم الجديد بالهنود الحمر، وهم السكان الأصليون، فعله الوافدون الأوروبيون بالفلسطينيين، وهم السكان الأصليون، من دون أن تكون هناك حجة منطقية لإعادة إحياء مملكة بعد أكثر من 2500 عام على موتها. مع الإشارة إلى أن العبرانيين أتوا من جنوب شبه الجزيرة العربية، ليشير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى أن العرب هم من أقنعوهم بتحويل إلههم من إله قبلي إلى إله كوني. وهكذا خرج يهوه من كهفه حيث كان يرشق السابلة بالحجارة.
الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، صاحب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، قال لنا أثناء مقابلة معه لدى زيارته بيروت إن اليهود الذين اتخذوا من الكون وطنًا لهم على مدى قرون عديدة، لا يمكنهم الاستناد في إنشاء دولتهم لا إلى الأيديولوجيا ولا إلى التاريخ. من هنا لا يمكن اعتبارهم أهل الأرض أو من هذه الأرض، ودون أن يكون أمامهم، بعد أن تستيقظ بلدان المنطقة من غيبوبتها، سوى الرحيل عنها أو الذوبان بين شعوبها إلى أي معتقد انتموا.
أي سلام بين لبنان (وسوريا) وإسرائيل، بعدما قال بنيامين نتنياهو إنه في "مهمة روحية" لإقامة إسرائيل الكبرى بإزالة كلٍّ من لبنان وسوريا بالكامل، لتتحدث المؤرخة اليهودية الأمريكية آفيفا تشومسكي عن "الصندوق الأسود" الذي في رأس زعيم الليكود والذي لا بد أن يقوده ويقود إسرائيل إلى الهاوية.
ومن لا يعرف أن ترامب أغفل في خطته عن "السلام الأبدي" الأساس في بقاء الصراع الأبدي، وهي الدولة الفلسطينية التي قال عنها عميحاي بن إلياهو، وزير التراث، إنها لن تقوم ولو تحوّل الشرق الأوسط إلى أرض يباب. وهو من طرح فكرة إلقاء القنبلة النووية على غزة.
لا دولة فلسطينية، أي "أن النيران ستبقى تحت ثيابنا"، كما رأى أحد المؤرخين الجدد بن موريس.
وماذا عن الدولة اللبنانية، بالأزمات البنيوية العاصفة، وبالتصدعات السياسية والطائفية المدمّرة، وحيث يمكن للإسرائيليين، بمنتهى السهولة، التسلل عبر تلك الشقوق إلى الكثير من الرؤوس، ومن كل الطوائف، باجترارها الرث لترسّبات القرن التاسع عشر، وبالكراهيات التي تحدث عنها الأمريكي وليم طومسون في كتابه "الأرض والكتاب" (1870).
على الأقل أن يكون هناك، بين طرفي التفاوض، الحد الأدنى من التوازن الدبلوماسي، حتى إذا ما أدلى الرئيس جوزف عون بتصريحه حول الالتحاق بالمسار الذي تسلكه المنطقة، ظهرت المخاوف والأسئلة حول ما إذا كانت هناك اتصالات جرت، بعيدًا من الضوء، بين قصر بعبدا والبيت الأبيض تمهيدًا لطرح خطة ترامب حول لبنان، بدءًا من نزع سلاح "حزب الله". وهذا ما استدعى توضيحًا من نائب رئيس الحكومة طارق متري، بخبرته السياسية والدبلوماسية المعهودة.
رأى أن تصريح الرئيس عون "حمّل أكثر مما يحتمل"، إذ إن رئيس الجمهورية "كان واضحًا بأن على تل أبيب تنفيذ اتفاقية وقف النار أولًا، وتحديدًا الانسحاب من الأراضي اللبنانية، ووقف الأعمال العدائية، وتحرير الأسرى. وهذه شروط تسبق أي تفاوض. أما شكل التفاوض فيمكن أن يكون كما كان معتمدًا سابقًا على الخط الأزرق، ويشارك فيه عسكريون من الجانبين".
وأضاف متري: "أما توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل فهو أمر غير مطروح. لكن هذا لا يعني أن نكون في حالة حرب دائمة معها، فلبنان متمسك باتفاقية الهدنة. ولكي تكون الهدنة مستدامة، قد لا يكون هناك مانع من عقد اتفاقية أخرى في حال اقتضى الأمر ذلك".
حيال هذا الكلام، ما موقف إسرائيل من السلام مع لبنان؟ بالأحرى ما الشروط التي تحاول فرضها؟ بعدما رأينا أن الرئيس السوري، وبالرغم من الضغط الأمريكي، حدّ من اندفاعه لتوقيع اتفاق أمني مع حكومة نتنياهو، لأن الدولة العبرية تريد أن تزرع "خيمة" عند مدخل دمشق بشق "طريق إنساني" مع السويداء (على غرار "الجدار الطيب" الذي أقامته إسرائيل داخل الحدود اللبنانية أثناء الاحتلال).
السلام المستحيل، لا السلام الصعب، مع إسرائيل. من تراه يضع رأسه بين أشداق الذئاب؟!

alafdal-news
