ميرنا صابر - خاص الأفضل نيوز
في لبنان، لم تعد عادة فنجان القهوة وأغاني فيروز صباحًا مجرّد تفصيل يومي، بل تحوّلت إلى ما يشبه الإدمان الجماعي. فمنذ عقود، لم يخلو بيت لبناني من رائحة البنّ، حتى باتت القهوة جزءاً من الهويّة الثقافيّة والاجتماعيّة. غير أنّ الأرقام اليوم تكشف وجهاً آخر لهذا الشغف، يربط ما بين العادة والاقتصاد، ويعكس تأثير الأزمة المستمرة على أكثر المشروبات التصاقاً باللبنانيين.
تشير الإحصاءات الأخيرة إلى أنّ استهلاك الفرد من البنّ تراجع من نحو 5.8 كيلوغرام سنوياً في عام 2019 إلى ما يقارب 4.1 كيلوغرام في عام 2023، وهو انخفاض يوازي حالة الانكماش المعيشي. فبينما كان اللبنانيون يستوردون أكثر من 33 ألف طن من البنّ قبل الأزمة بقيمة 71 مليون دولار، لم يتجاوز الاستيراد 19 ألف طن في عام 2020 بقيمة 37 مليون دولار، أي بانخفاض يصل إلى 41.5%. هذا التراجع ليس دليلاً على فتور في الحب للقهوة، بل انعكاس مباشر لضعف القدرة الشرائية، حيث صارت أبسط الطقوس اليومية عبئاً على الميزانية العائلية.
ورغم ذلك، يظلّ الإدمان على القهوة واقعاً لا يمكن إنكاره. اللبناني يشرب قهوته من الصباح إلى المساء، بين الركوة التقليدية في البيوت، والإسبريسو المتسارع في المقاهي، والكبسولات الحديثة في المكاتب. القهوة بالنسبة له ليست فقط جرعة من الكافيين، بل هي بداية الحديث مع الضيف، مساحة للتأمّل الفردي، ومسرح للتواصل الاجتماعي. حتى إن كثيرين باتوا يختصرون معاناتهم اليومية بجملة واحدة: "يمكن أن أستغني عن أشياء كثيرة… لكن لا أستطيع أن أستغني عن فنجان القهوة".
المفارقة أن الفنجان ذاته صار يختزن قصة الأزمة. ففي عام 2021، قُدّرت كلفة فنجان قهوة منزليّة بنحو 2164 ليرة لبنانية عندما كان سعر كيلو البن 120 ألف ليرة وسعر السكر 16 ألفاً، وهو رقم بسيط على الورق لكنه كان كفيلاً آنذاك بكشف كيف تآكلت التفاصيل الصغيرة في حياة الناس. ورغم تراجع الاستيراد وانخفاض الكميات، بقيت المقاهي البيروتية والطرابلسية وصور وزحلة عامرة بزبائنها، وكأن القهوة هي الملاذ الأخير في بلد يبحث عن شيء ثابت لا يتبدّل.
كما أن أحدث البيانات تشير إلى أن لبنان استورد نحو 15 ألف طن من البنّ الخام في عام 2023، وأن سوق مشروبات القهوة الجاهزة يتجه نحو نمو سريع بمعدل يزيد عن 20 % سنوياً من 2024 فصاعداً، فإن استهلاك الفرد لا يزال مُقدّراً في السنوات الأخيرة بنحو 17 كغ تقريباً، ما يعكس استمرار العشق القهوي رغم التراجع الاقتصادي.
قد يبدو توصيف "إدمان اللبنانيين على القهوة" مبالغاً فيه، لكن الحقيقة أنّ هذه العادة تجاوزت معنى المشروب لتصبح أشبه بلغة مشتركة. لغة لا تعترف بالفوارق الطبقية ولا بانقسامات السياسة، تجمع الأهل على طاولة صغيرة والجيران على شرفة ضيّقة، وترافق العابرين في صباحاتهم السريعة نحو العمل. وحتى في زمن السوشال ميديا، بات فنجان القهوة جزءاً من الصورة اليوميّة التي تُنشر على إنستغرام وفيديوهات "قهوة الصبح" التي تُشارك على تيك توك، ما يكرّس حضورها كرمز عاطفي وثقافي يتجاوز الأرقام الباردة.
في النهاية، قد يتغيّر حجم الاستهلاك وأرقام الاستيراد، لكن القهوة تبقى مرآة اللبناني. هي الوجه الذي يعكس الأزمة كما يعكس الفرح، وهي الطقس الوحيد الذي قاوم الانهيار، وظلّ حاضراً كعنوان للهوية وأداة للتماسك الاجتماعي. ولعلّ السؤال الحقيقي ليس "كم يشرب اللبناني من القهوة؟"، بل ماذا يبقى من لبنان من دونها؟

alafdal-news
