ميشال نصر- خاصّ الأفضل نيوز
في مشهد يختزل تعقيدات اللحظة اللبنانية والإقليمية، حلّقت طائرة مسيّرة إسرائيلية فوق محيط القصر الجمهوري في بعبدا، لتفتح باباً واسعاً أمام التأويلات حول الرسائل الخفية التي تحملها هذه الخطوة الجريئة.
فالقصر الجمهوري، الذي يُعتبر رمز السيادة الوطنية ومركز القرار السياسي الأول في البلاد، لم يكن يوماً هدفاً مباشراً لأي تحرك إسرائيلي منذ نهاية الحرب في التسعينات، ما يجعل هذا التحليق حدثاً استثنائياً في توقيته وموقعه ومعناه.
أكيد أن التحليق لم يأتِ في فراغ، بل في لحظة يشهد فيها الوضع العسكري توتراً متصاعداً، مع انطلاق تدريبات فرقة الجليل، وتوسيع تل أبيب لمروحة غاراتها، كمًّا ونوعا، وفي ظل سجال لبناني داخلي وخارجي، حول مبادرة رئاسية لفتح حوار غير مباشر مع إسرائيل برعاية دولية، زاد طينه بلَّة "تغريدة" توم براك الطويلة والمفصلة على منصة "اكس".
من هنا، بدا وكأن الطائرة المسيرة لم تكن فقط أداة استطلاع أو جمع معلومات، بل وسيلة دبلوماسية "من نوع آخر"، استُخدمت لتوجيه رسالة سياسية إلى رئيس الجمهورية نفسه، مفادها أن إسرائيل تراقب عن كثب، وتملك القدرة على خرق الرموز السيادية متى شاءت، هي التي لم توفر مقر رئاسة الحكومة اليمنية، وقبلها قصر الرئاسة السوري.
بالنسبة للمراقبين العسكريين ما حدث، يصنف على أنه تطور نوعي في مسار الانتهاكات الجوية الإسرائيلية، إذ تجاوز الطابع الروتيني للتحليقات فوق الأراضي اللبنانية، إلى مشهد استفزازي بالقرب من أهم موقع سيادي في البلاد، على بعد أيام من استهداف منشآت للدولة في النبطية وآليات هندسية لها أيضا في المصيلح.
إشارة إلى أنه، على المستوى العسكري، لا يُستبعد أن تكون المسيّرة في مهمة استطلاع لجمع صور ومعلومات عن محيط القصر والمنشآت الأمنية المحيطة به، رغم أن بعض الخبراء يرون أن الهدف الأعمق يتمثل في اختبار مدى جهوزية الدفاعات اللبنانية وقدرتها على رصد الطائرات من دون طيار، خصوصاً في مناطق حساسة من العاصمة، مشيرين إلى أن تل أبيب دأبت في السنوات الأخيرة على تنفيذ مثل هذه التحليقات في أوقات محددة لقياس ردود الفعل اللبنانية، سواء من الجيش أو من حزب الله.
أما في البعد السياسي، فيرى كثيرون أن الخطوة تأتي ضمن سياسة "الرسائل غير المباشرة" التي تنتهجها تل أبيب منذ أشهر، في محاولة لفرض إيقاعها على النقاشات اللبنانية حول مستقبل العلاقة معها، سواء في إطار مفاوضات ترسيم جديدة أو في سياق ترتيبات أمنية محتملة على الحدود.
وبين من يعتبر ما حدث تهديداً مباشراً لهيبة الدولة، ومن يراه مجرد رسالة تحذيرية مشفّرة، يبرز القاسم المشترك الأوضح، الذي أرادت إسرائيل قوله: أولا، للبنان، بإن أجواءه ليست بمنأى عن الاختراق، وثانيا، لجوزاف عون، بإن القرار السياسي في بعبدا، مهما بدا صوِّر على أنه مستقل أو سيادي، يبقى خاضعاً لمعادلة الردع والرقابة التي تفرضها القوة الجوية الإسرائيلية.
عليه فإن الحادثة، التي أربكت الأوساط السياسية والأمنية في آن، أعادت طرح سؤال جوهري: كيف يمكن للبنان أن يحافظ على هيبته وسيادته في مواجهة حرب "الرسائل الجوية" الإسرائيلية المباشرة، والأميركية بالواسطة، التي لا تنفك تتطور في الشكل والمضمون؟ وهل يكون الردّ اللبناني دبلوماسياً هادئاً أم خطوة تصعيدية تحفظ ماء الوجه وتعيد تثبيت قواعد الاشتباك؟
بهذه الأسئلة، يدخل لبنان مرحلة جديدة من اختبار سيادته، حيث لا تقتصر المواجهة على الحدود الجنوبية، بل تمتد إلى عمق العاصمة ورموزها، في معركة عنوانها الحقيقي: من يملك القرار في سماء بعبدا؟

alafdal-news
