د.علي ناصر ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
تمهيد
لم تكن حرب غزة التي تجري حالياً وطريقة تعامل الإعلام الغربي والأمريكي معها إلا امتداداً لما نشأت عليه وأسسته المفاهيم والدعاية الأمريكية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن. لقد بنيت جميع المعتقدات التي تؤمن بها المجتمعات الغربية على المعلومات والصور التي تطلقها وسائل الإعلام، وهي في الحقيقة تسيطر عليها نخبة من الذين يحسنون السيطرة ومعالجة المعلومات وتنقيحها وتحويلها إلى شعارات ورموز وتصبح معتقداً وبالتالي سلوكاً.
يظهر الإعلام الغربي والأمريكي -خصوصاً- تلاعبه بالخبر الصحفي والمعلومات والأحداث بالتحديد من خلال اللغة المستخدمة، والمحتوى. بالنسبة إلى اللغة المستخدمة، إن تصنيف حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية "بالإرهاب" من قبل الإدارة الأمريكية وتبني الإعلام الأمريكي لهذا التصنيف من دون طرح تصنيفات أو لغة مقابلة، وتحميلهم مسؤولية كل الأحداث المتعلقة بالحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر، يأخذ شكل التضليل الثقافي للجمهور الغربي والأمريكي ويقدم صورة مجتزأة عن حقيقة الصراع، إضافة إلى ذلك، تتبنى وسائل الإعلام الغربية والأمريكية لغة وصورة تدفع إلى التعاطف مع إسرائيل، بينما تتجاهل مقتل المدنيين الفلسطينيين. وتبرز عدد القتلى الإسرائيليين في عناوينها وتسقط الشهداء من الأطفال والنساء الفلسطينيين. بيد أن المحتوى يحمل المضامين الأكثر خطورة، من خلال تزوير الحقائق التاريخية، وذلك من خلال تقارير صحفية عن مقتل أطفال يهود وحرقهم، وعن اغتصاب نساء يهوديات، ضجت بها كبرى وسائل الإعلام الغربية وقُدمت عبر صحفيين مرموقين من دون تقديم أي حقائق ومعطيات جدية تثبت ذلك، في عملية تلاعب وتشويه لطوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
تشكل وسائل الإعلام في الغرب الأمريكي أجهزة تابعة للدولة العميقة تعمل على أدلجة المجتمع وتوجيهه بما يتلاءم والفكر الرأسمالي والمصالح الغربية، وتستخدم الدعاية والتضليل من أجل السيطرة على الوعي حيث كان هناك في مجمل وسائل الإعلام الغربية تكراراً لأسئلة واستنتاجات محددة كان يتفوه بها مقدمو البرامج ويطلبون من الضيوف الإجابة عليها وعندما لا يوافقونهم اتجاهاتهم وآراءهم يتم إدانتهم والتهجم عليهم.
قوة الدعاية الأمريكية
لم يكن الشعب الأمريكي في وارد المشاركة في الحرب العالمية الأولى، وكان الحياد هو الاتجاه السائد بين الأمريكيين بفعل جذورهم الأوروبية، لكن مع انتخاب الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون عام 1916 تمكنت تلك الإدارة ومن خلال الدعاية الحكومية وفي ظرف ستة أشهر من نقل الرأي العالم الأمريكي من فئة مسالمة بطبيعتها إلى فئة تستجدي الحرب ومستعدة للانتقال إلى قارة أخرى لمحاربة "أعداء الإنسانية" الألمان. والخطورة تكمن أن إدارة الرئيس "ويلسون" وقتها كان لديها التزاما سياسيا بالدخول في الحرب إلى جانب بريطانيا، لكنها كانت تخفي ذلك عن مواطنيها. وفعلاً دخلت الولايات المتحدة الحرب بعد عام تقريباً من انتخاب الرئيس ويلسون. ومن أجل إدارة الرأي العالم وتغيير اتجاهاته، أنشأ الرئيس ويلسون لجنة إعلامية حكومية هدفها الدعاية وإقناع الشعب الأمريكي للمشاركة في الحرب العالمية الأولى تضم دبلوماسيين وعسكريين. وكانت تعمل على إنتاج الأدوات الدعائية من أفلام، وكتب، ومنشورات مختلفة، و"بوسترات" وإعلانات، واستخدمت قادة الرأي من رجال أعمال، وأساتذة جامعات لتسوق أفكارها، وترأسها صحفي متقاعد يدعى " جورج كريل" ونجحت في ذلك في خلال 6 أشهر. أدى نجاح الدعاية الأمريكية إلى اقتباسها واستخدامها وتطبيقها نفس التكتيكات في حربها ضد الاتحاد السوفياتي، وصنعت منه حالة من الخوف والرعب طوال مدة الحرب الباردة. واستخدمت الإدارة الأمريكية الدعاية والتضليل في وجه جميع خصومها السياسيين والدوليين وفي مقدمتهم من الصين ، روسيا، إيران ، كوبا، كوريا الشمالية، واستخدمتها في وجه كيانات دولية تعارض السياسة الأمريكية وفي وجه كل حركات التحرر في العالم.
النظم الديمقراطية
ترتبط الديمقراطية كقيمة سياسية بمبدأ المساواة بين المواطنين فالجميع له الحق في المشاركة في صنع القرار، وتفترض الديمقراطية ضمان حقوق الإنسان، والحفاظ على الحريات الأساسية للإنسان، ومبدأ سيادة القانون، وتداول السلطة، والتسامح ،والعدالة، والمساواة.
وتكفل النظم الديمقراطية حرية التعبير وحرية وسائل الإعلام، وهذا يعني عدم قدرة طرف على التحكم في وسائل الإعلام، وعدم احتكار حرية التعبير، وعدم توجيه الآراء والمواقف، وإضافة إلى القدرة على التعبير عن الحقائق وما يجري من أحداث ونقلها بشكل متوازن بعيداً عن الانحياز وما يتوافق واتجاه محدد، وهذا يفترض الحياد والموضوعية. وفي مقابل النظم الديمقراطية تشكل النظم الديكتاتورية النقيض المباشر حيث تنعدم حرية الإنسان، ووسائل الإعلام مملوكة من قوى السلطة، وتفتقر إلى حرية التعبير، والآراء والمواقف موجهة وتخدم قوى السلطة. وعندما نتكلم عن حرية وسائل الإعلام المقصود ممارسة هذه الحرية في النظم الديمقراطية وليس الديكتاتورية، بطبيعة الحال، والمفارقة أن وسائل الإعلام في النظم الغربية الديمقراطية -وخاصة الأمريكية- تخضع لتوجيه سياسي حاد تحتكره عقلية تجارية ماركنتيلية التي -هي نفسها- أنتجت السلطة القائمة والتي تعكس امتدادا محليا وإقليميا ودوليا، ويظهر ذلك في العديد من الأحداث والتطورات الدولية وهذا ما ظهر أثناء الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2001 وتدميرها أفغانستان عام 2003، ويتجلى ذلك في تعاطي الإعلام الغربي مع الحصار الأمريكي لكوبا، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية على سوريا وإيران، وفي مسألة تايوان، والحرب الأوكرانية الروسية.
والحقائق الفاضحة للإعلام الغربي تظهر بالحرب التي تشنها إسرائيل على غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، حيث يتلاعب بالحقائق وتلفيق الأخبار واختراع الأحداث، ويفتقر إلى التنوع ويظهر كأنه وسيلة إعلام واحدة تخضع لتوجيه سياسي موحد، وهي بهذه الحال تفتقر إلى التنوع وتقبل الآخر وهنا تسقط المسافة والمعايير بين النظم الديمقراطية والديكتاتورية ولكن أدوات السيطرة والهيمنة على الإعلام تختلف بحسب النظام.
دور وسائل الإعلام
تتألف النظم الحاكمة في الغرب من النُخب الحاكمة وآخرين، وهؤلاء الآخرين لا يقدرون أن يتحملوا مسؤولية الحرية إذا أعطيت لهم ولا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم -ولا بد- من توجهيهم وإدارتهم، والتوجيه والإدارة هنا هو أسلوب وطريقة عمل فإما أن يكون خشناً يتطلب هراوات وعصي وبندقية، وإما يكون ناعماً يفترض دعاية وفيلماً ومنشوراً. ومنذ الحرب العالمية الأولى تبنى الغرب بقيادة الولايات المتحدة الديمقراطية كاستراتيجية للوصول إلى الحكم ضمن هدف أسمى هو الحرية وعندما خرجت الديمقراطية عن السيطرة وأصبحت الجماهير تخرج من تحت عباءة النظام القائم، لجأ هذا النظام إلى التضليل والخداع واستخدام الإعلام من أجل السيطرة والهيمنة وتمكن عبر لجنة "كريل" من تغيير الرأي العام الأمريكي من وجهة إلى وجهة أخرى معاكسة. واكتشف النظام القدرة الهائلة للإعلام في التوجيه والسيطرة والتلاعب بالرأي العام، والمفارقة هنا أن النازية استفادت من التجربة الأمريكية في الدعاية ثم عادت واستخدمت الإعلام بنفس الطريقة وتمكنت من تحقيق نتائج باهرة. ولكن النازية انهزمت وانتهت بينما الرأسمالية الأمريكية انتصرت واستمرت.
استنتاج
تمثل الديمقراطية مجموعة قيم سياسية وثقافية واجتماعية وهي بطبيعتها ابتكرت من أجل المشاركة السياسية، ولكن استخدمتها الولايات المتحدة كأداة لتحقيق مصالحها فأفرغت مضمونها الحقيقي.
تقترب وسائل الإعلام في الغرب من وسائل الإعلام في الدولة الشمولية من حيث التعبئة العقائدية والخلفية الفكرية في تناولها للأحداث العالمية. يستخدم الغرب الإعلام التقليدي بفعالية من أجل السيطرة على العقول وتوجيه الرأي العام، لكن وجد إلى جانبه الإعلام الجديد المتمثل بوسائل التواصل الاجتماعي والذي أضعف حدة التوجيه والإدارة في الإعلام التقليدي عبر ما يعرف بصحافة المواطن. يعمل الإعلام في الولايات المتحدة على مواكبة السياسات الأمريكية في العالم ويتبناها ويبررها مهما اقترفت من أخطاء وأدت إلى سقوط ضحايا. سقط الإعلام الغربي ولم يعد يملك القوة والحافز فالرسالة التي يحملها أصبح مشكوكا فيها وتقرأ بصفتها موجهة ولم تصدر عن إرادة حرة ومهما كانت الوسيلة التي تصدر عبرها سواء كانت تقليدية أم جديدة. يسود الاشمئزاز والغيظ من الإعلام الأمريكي وطريقة تعاطيه مع القضايا العالمية وفي مقدمها حرب غزة والسؤال هل يشكل ذلك حافزاً ومحركاً دولياً لخلق إعلام بديل.