محمد علوش-خاصّ الأفضل نيوز
من الجنوب إلى الشمال، ومن البحر إلى الداخل، يبدو الكيان اللبناني محاصراً بأفكار "إعادة التشكيل" أكثر من أي وقت مضى. ليست المعضلة في أزمة اقتصادية خانقة أو اهتراء المؤسسات، بل في أسئلة تُطرح همساً في العواصم الكبرى حول جدوى استمرار لبنان كدولة قائمة بذاتها، وحول قابلية هذا الكيان للتكيّف مع التوازنات الجديدة التي يراد رسمها في المنطقة.
في الأيام الأخيرة أعاد المبعوث الأميركي توم باراك بصفته الصوت الرسمي للإدارة الأميركية الحالية التذكير بضرورة تفكيك اتفاقية سايكس بيكو وخلق صيغة أكثر "مرونة وواقعية" لإدارة الإقليم، ومؤخراً من خلال الحديث عن لبنان و"بلاد الشام الكبرى". هذه النظرية التي يتحدث عنها باراك لم تأتِ من فراغ، بل تستند إلى نقاشات تجري في دوائر القرار الغربية، ترى في الكيانات التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى "تشكيلات فاشلة" لم تعد تلبي مصالح الاستقرار الغربي، ولا سيما في لبنان وسوريا والعراق.
شبح بن غوريون لم يغادر بعد
وإذا كان باراك يضع خريطة تفكيك الكيان اللبناني من بوابة الدمج، أو السيطرة الأمنية أو السياسية، فإن الإسرائيليين لطالما حلموا بتفكيك لبنان بالقوة، أو على الأقل بفصله جغرافياً بما يخدم مصالحهم الأمنية.
ففي العام 1949، طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون مشروع احتلال جنوب الليطاني وضمّه إلى "المنطقة الأمنية الحيوية لإسرائيل"، بالتوازي مع دعم "إنشاء دولة مسيحية في جبل لبنان" تكون كياناً حليفاً لتل أبيب ومحايداً تجاه مشروعها، ومعادياً للوجود الفلسطيني.
ورغم أن هذه الخطة لم تُنفّذ بالشكل الكامل، إلا أن جوهرها ظل حيًّا في العقل الأمني الإسرائيلي، ولا يزال يظهر كلما وقعت حرب على لبنان. وعليه، فإن أي اتفاق إسرائيلي -سوري جديد، أو تفاهمات أمنية تتجاوز الحدود، قد تُعيد إحياء فكرة التفكيك الجغرافي للبنان بشكل أو بآخر.
الشمال تمدّد سوري أم استعادة لنفوذ قديم؟
في المقلب الآخر، تُطرح في بعض الأوساط السورية، سياسياً وإعلامياً، نية دمشق بـ"استعادة الحضور الكامل" في الشمال اللبناني، وما يُثير الانتباه، أن هذا "الاهتمام السوري الجديد" يتقاطع زمنياً مع الطرح الأميركي بضرورة ضبط الحدود الشرقية للبنان، والتفكير في إدارة مشتركة لها، فهل الكيان اللبناني بخطر؟
حين تتضافر هذه الملفات، يصبح الحديث عن خطر وجودي على لبنان أكثر من مشروع افتراضي. فوفق قراءة واقعية لما يجري، يمكن رسم ثلاثة مؤشرات رئيسية على نوايا تفكيك ناعم للبنان، المؤشر الأول هو انهيار الوظيفة التقليدية، إذ لم يعُد لبنان يلعب دور "صندوق البريد" الإقليمي، ولا "الوسيط التجاري" ولا "الملاذ المصرفي" ولا مستشفى الشرق. وكل هذه الأدوار انتقلت إلى عواصم أخرى، ما يجعل الدولة نفسها بلا وظيفة جيوسياسية كالسابق، المؤشر الثاني هو التآمر على الحدود والجغرافيا والاتفاقيات التي شكلت لبنان بحدوده الحالية، والمؤشر الثالث هو غياب القرار الوطني الموحد، إذ لا قرار لبناني جامع، لا سياسة خارجية موحدة، ولا رؤية موحدة لكيفية المواجهة والحفاظ على لبنان.
قد لا يكون تفكيك لبنان قراراً قد اتُّخذ بعد، لكنه بات مطروحاً كخيار في الأدراج الدولية، والسؤال الحقيقي اليوم ليس فقط ما إذا كان الكيان اللبناني في خطر، بل ما إذا كان هناك نية لأبنائه للدفاع عنه.