د. علي ناصر ناصر - خاص الأفضل نيوز
قررت الولايات المتحدة إعادة تكوين الشرق الأوسط وفق خطة مبنية على "ترايبود" ثلاثي القوائم يعتمد على القوة الإسرائيلية الرادعة، وتصفية القضية الفلسطينية، وردع إيران وتحويلها إلى دولة فاشلة.
يترافق ذلك مع عملية تضليل سياسي وأخلاقي، ومناورات سياسية شيطانية، وتلاعب دبلوماسي ماكر، ظهر ذلك جلياً في المناورات الأمريكية منذ عام حول وقف إطلاق النار في غزة ويعمل في الوقت عينه على دعم الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ عام. وتتكئ بذلك على موارد هائلة في مجال التكنولوجيا والعلوم العسكرية تستخدم من أجل عملية تغيير البنية السياسية للشرق الأوسط التي انبثقت إلى الوجود منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979 المؤيدة والداعمة للقضية الفلسطينية والمعادية للولايات المتحدة.
ليست المحاولة الأولى للسياسة الأمريكية لتغيير الشرق الأوسط بل حاولت في العام 1982 في فترة الحرب الباردة عبر تدخل إسرائيلي مباشر وكان هدفه الرئيس تصفية القضية الفلسطينية، ومع انتهاء الحرب الباردة حاولت الولايات المتحدة مباشرة عام 2001 عندما اجتاحت أفغانستان، وحاولت مرة أخرى عام 2003 عندما اجتاحت العراق بتدخل أمريكي مباشر، ثم عادت عام 2006 بتدخل إسرائيلي مباشر ضد المقومة في لبنان، في جميع هذه الحالات أدخلت الولايات المتحدة الخراب والدمار على الشرق الأوسط من دون أن تتمكن من تغيير البنية السياسية للمنطقة، جميع هذه المحاولات فشلت وانسحبت والولايات المتحدة وإسرائيل من كافة المناطق التي احتلتها مع تكبيدها خسائر فادحة.
استخدام القوة الإسرائيلية لفرض التغيير السياسي
يمثل العنف والقوة الأدوات الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية على امتداد تاريخها ولا تترك فرصًا حتى تمارس ذلك في فرض رؤيتها السياسية. منذ طوفان الأقصى قامت بتزويد إسرائيل بكافة مصادر القوة العسكرية من أجل تغيير صورة المنطقة عبر خلق تفوق وتقدم إسرائيلي عسكري وتكنولوجي يسمح لها أن تكون القوة الرئيسية في الشرق الأوسط على حساب القوة الإيرانية والتركية أو أي قوة عربية أخرى قد تبرز عبر استخدام العنف المطلق والبطش كأداة وحيدة في التعامل مع قضايا المنطقة المعقدة، لذلك تقدم الولايات المتحدة دعماً عسكرياً هائلاً لإسرائيل وتغطي وتحمي عملية الإبادة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة وتقوم بالشئ نفسه في لبنان، وتعمل على إظهار العنف والإجرام الإسرائيلي على وسائل الإعلام من أجل خلق الخوف والصدمة عند الفئات الاجتماعية والشعبية التي تؤيد المقاومة والقضية الفلسطينية وتعارض السياسة الأمريكية في المنطقة.
في الحقيقة ظهرت ذروة التطبيقات الإسرائيلية لهذا الاتجاه من خلال العمليات الأمنية-التكنولوجية التي نفذتها على الأراضي اللبنانية من تفجير أجهزة "البيجر" وأجهزة "اللاسلكي "وكان أخطرها اغتيال سماحة الشهيد السيد حسن نصرالله وما يمثله من رمز ووزن فارق على امتداد المنطقة، وداخل محور المقاومة، وهو قرار لا يمكن تنفيذه من دون موافقة وحتى مشاركة أمريكية.
وظهرت العجرفة والتحدي الرئيسي في خطاب وجهه رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" إلى الشعب الإيراني يحرضه على النظام القائم، في الحقيقة، أن إسرائيل شعرت بالنشوة والقوة والسيطرة بعد سلسة من العمليات الأمنية- التكنولوجية الخبيثة التي مكنتها من اختراق بنية المقاومة، وظهرت تصريحات لرئيس وزراء العدو "بنيامين نتنياهو" يطالب فيها بتغييرات سياسية في المنطقة تشمل مختلف دوله واعتبر أن الإنجازات التي حققها تسمح له بفرض تركيبة سياسية جديدة في الشرق الأوسط، واندفع نحو اجتياح عسكري للبنان من أجل تغيير الواقع بالقوة.
تهدف الولايات المتحدة من ذلك إلى حسم الصراع القائم في المنطقة مع الصين وروسيا، وكسر الحلف الروسي الإيراني بالقوة وإنهاء النفوذ الروسي في سوريا، عبر توجيه ضربة عسكرية إلى بنية النظام، واغتيال الرئيس بشار الأسد، وبالتالي إنهاء الوجود الروسي على شواطئ المتوسط وضرب المشاريع الاقتصادية للصين مع دول المنطقة، وتعطيل مبادرة الحزام والطريق الصينية في المنطقة.
تعتبر الولايات المتحدة أنها أمام فرصة من أجل تصفية القضية الفلسطينية
تشكل القضية الفلسطينية جوهر الصراع في الشرق الأوسط وطريقة تسويتها ستحدد مصير المنطقة. والجدير بالذكر، أن الولايات المتحدة حاولت منذ انتهاء الحرب الباردة، فرض تسوية للقضية الفلسطينية بطرق سلمية، بدأت مع مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، لكنها لم تنجح، وأحد أسباب الفشل الكبرى تعود إلى المناورات السياسية والانحياز الأمريكي، الذي يرفض منح الفلسطينين دولة "ضمن حدود 1976".
في الحقيقة أصبحت القضية الفلسطينية عبئاً أخلاقياً وسياسياً وعائقاً أمام جميع المشاريع التي تحاك للمنطقة من أجل تطبيع العلاقات بين مختلف الأنظمة العربية وإسرائيل.
وفي هذا السياق ترفض الولايات المتحدة وإسرائيل قيام دولة فلسطينية. في المقابل، الأنظمة العربية الرسمية لا يمكنها تخطي القضية الفلسطينية عندما تبحث عن التسوية العربية-الإسرائيلية على امتداد الشرق الأوسط، من هذا المنطلق وجدت الولايات المتحدة أن الفرصة متاحة بعد عملية طوفان الأقصى لتستخدم العنف والقوة في تغيير الوقائع التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني، وهذه العملية لا يمكن حصرها في قطاع غزة وبالفلسطينيين بل ستشمل لبنان والمقاومة اللبنانية وجمهورها وبيئتها ثم تنتقل بفعل ذلك إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان والضفة الغربية، والدولة السورية والإيرانية حيث يأتي الدعم والزخم الحقيقي والفعلي لحركة المقاومة في فلسطين ولبنان.
ردع إيران وتحويلها إلى دولة فاشلة
مارست الولايات المتحدة كافة أنواع الخداع والدبلوماسية من أجل تكبيل الفعل الإيراني في مواجهة الهجومات الإسرائيلية المستمرة على قوات الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وعلى الاغتيالات المستمرة التي تنفذها إسرائيل في الداخل الإيراني، حيث مارست ضغطاً هائلاً من أجل ضبط ردة الفعل الإيرانية ومنعها من أي فعل مؤثر سياسياً وعسكرياً بعد اغتيال القائد إسماعيل هنية على أراضيها وما سببه ذلك من ضرب للقوة المعنوية للدولة الإيرانية.
أكثر من ذلك عندما قامت إيران بالرد العسكري على إسرائيل في 1 أيلول/سبتمبر 2024 عمدت الولايات المتحدة إلى تهوين الرد والتقليل من فعاليته
الاستراتيجية بعكس ما أظهره الواقع الإسرائيلي، حيث أعادت الضربة الإيرانية القوة الإسرائيلية إلى حجمها في الشرق الأوسط وأسقطت كل التحديات التي أطلقها "نتنياهو" اتجاه دول المنطقة.
تمكنت الولايات المتحدة من فرض عقوبات قاسية على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتمكنت من خلالها بتقييد النشاطات والمبادرات الاقتصادية الإيرانية والهدف الرئيسي من ذلك كسر الدولة وتحويلها إلى دولة فاشلة، رغم كل ذلك لم تستطيع الولايات المتحدة من إنهاء قوة إيران الإقليمية، إضافة إلى ذلك لم تتمكن من لجم أو الحد من التطور العسكري الإيراني وخاصة في مجال صناعة الصواريخ التي حققت لإيران قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.
استنتاج
تختلف المحاولة الأمريكية الحالية عن المحاولات السابقة لتغيير المنطقة بفتح جميع الجبهات مع بعضها، وتطبيق مفهوم وحدة الساحات من جانب محور المقاومة، إضافة إلى كمية العنف السائدة والدمار الهائل سواء في غزة أو لبنان، والتدخل الأمريكي المباشر إلى جانب إسرائيل عسكرياً ولوجستياً، أي أن المحاولة هذه تنفذها الولايات المتحدة وإسرائيل معاً بينما في السابق كانت تنفذ بشكل منفرد، لاعتبارات تتعلق بحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وبالصراع الدولي في المنطقة.
الجدير بالذكر أن وقف إطلاق النار كان يتم مع الحفاظ على التوازن القائم وهذا معاكس لاتجاهات الحرب القائمة حالياً، التي تحاول الولايات المتحدة كسره عبر القوة الإسرائيلية.
الوسائل الأمريكية لتغيير البنية السياسية للشرق الأوسط هي نفسها وتعتمد بشكل رئيسي على قتل المدنيين وتهجيرهم والتنكيل بهم وجميعها زادت النقمة عليها وعلى الإسرائيليين ولم تتمكن من كسر إرادة شعوب المنطقة رغم المجازر التي ترتكب.
ستقود هذه العملية في حال نجاحها إلى تغيير في النظم السياسية، والحدود الجغرافية للدول، ليس في الشرق الأوسط وحسب بل على امتداد الوطن العربي، وإلى ضرب النفوذ الروسي والصيني، والتحكم بممرات النفط مما يخلق تأثيراً "جيوبولتيكيا" سوف يطال مختلف مناطق التوتر والصراع بين الولايات المتحدة وخصومها الدوليين، وستؤدي إلى تثبيت مفهوم الأحادية الدولية "وأمركة" الثقافة والاقتصاد والأعمال بالكامل وكسر مختلف المنظمات الدولية والإقليمية التي تعارض السياسة الأمريكية، وستقود في نفس الوقت إلى تلاشي مفهوم العدالة والقوانين الدولية، وعودة العنف كأداة رئيسية في التعامل الدولي، وتثبيت الرؤية الرأسمالية الغربية للنظم الدولية وآلياتها في صنع القرار.
أما في حال فشلها ستؤدي إلى إضعاف الولايات المتحدة في الإقليم وسيبتعد الحلفاء الإقليميون عنها، وستكون للصين وروسيا القوة الغالبة في المجال الجيواستراتيجي، وستضع إسرائيل "كدولة" تأسست عام 1948 على طريق الزوال، وسيدفع بالغرب إلى البحث عن قوة تأثير أخرى في المنطقة، ولكن الأمر سيستغرق الوقت الكافي من أجل أن تأخذ التحولات مواقعها الطبيعية، إضافة إلى ذلك وسيكون وقعه وتأثيره مباشرة على الهيكلية السياسية في لبنان، وستصبح إيران قوة إقليمية مقررة ومستحيل تجاوزها وسترتبط بمحور قوي يمتد حتى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.
تعود الولايات المتحدة لتستخدم القوة في حل النزاعات الدولية وتربط مصالحها مباشرة بالكيان الصهيوني وتذهب إلى عملية "غالب أو مغلوب" لتفرضها على القوى الأخرى التي وجدت نفسها أمام معركة وجودية ستحدد مصيرها على امتداد القرن الحالي.