علي ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
شكل النظام في سوريا جزءًا من المنظومة الإقليمية في الشرق الأوسط ولم يكن من المتغيرات المستقلة، بل كان من المتغيرات التابعة إقليمياً ودولياً، ونشاطاته السياسية والإقليمية تتبع بشكل كبير الحركة السياسية الدولية والإقليمية، وكان يملك قدرات هائلة على التكيف السياسي مع التطورات السياسية الدولية والإقليمية ومارس ذلك في مختلف الفترات التي مرت على المنطقة، وتمكن من البقاء في السلطة لمدة 56 عاماً بفعل إدارة للحكم داخلياً وخارجياً تمثلت بمهارة عالية في ممارسة السلطة، بدأت هذه القدرات تضعف منذ عام 2011، أكثر من ذلك بدأت الدولة السورية تتجه أكثر نحو فقدان مواردها الذاتية وقدراتها على التكيف السياسي بفعل عوامل ذاتية وموضوعية دفعت النظام القائم إلى التمسك أكثر بالثوابت والخيارات السياسية ضمن الصراع الدولي والإقليمي القائم والانكفاء أكثر نحو العزلة وحتى لا ندخل في عملية تقييم لأسباب سقوط النظام سنعمل على المتغيرات التابعة التي ستنتج عن تغيير النظام في سوريا.
والتغيير التابع الأكثر ارتباطاً بسقوط النظام في سوريا يتعلق بالقوة الرئيسية التي تحكم الشرق الأوسط وتظهر من خلال القوة التركية والقوة الإيرانية والقوة الإسرائيلية وسنتعامل في هذا السياق مع الجغرافية التركية التي تمكنت من تحقيق مكاسب عززت من فاعليتها الإقليمية والدولية.
سوريا والنظام القادم وزيادة النفوذ التركي
قرأت تركيا المشهد الدولي والإقليمي بشكل جيد ودفعت بالمجموعات السورية المعارضة إلى البدء بعملية مدروسة ومتقنة تمكنت بنتيجتها من إنهاء الوجود الإيراني في سوريا في ضربة واحدة، وتمكنت من وضع الوجود الروسي تحت الرحمة التركية، وأعطى ذلك الدولة التركية نفسها مساحة تأثير أكبر ضمن حدود الشرق الأوسط والقوقاز حيث تتداخل المصالح بينها وين روسيا وعززت دورها في الناتو كحليف صلب في منطقة مضطربة. وعليه ستتمكن تركيا من إعادة بناء وتشكيل الجيش السوري، وسيكون امتدادًا للجيش الوطني السوري وهو في الحقيقة كيان تابع بالمطلق لتركيا، وهو نفسه ينفذ عملية ضرب للقوى الكردية في الشمال السوري. إلى جانب ذلك تركيا أمام فرص لإنهاء الحالة الكردية بشكل الكامل فيما يتعلق بالجانب السوري، حيث تعمل على خلق الظروف المادية والموضوعية على الأراضي السورية للتخلص من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وإخضاعها لشروط تركيا وإحراج الولايات المتحدة في دعمها وتبنيها "لقسد".
وكذلك ستتمكن تركيا من أن تمسك بالمفاصل الأساسية للنظام السياسي الذي يُعمل على بنائه من حيث البنية الاقتصادية وآلية صنع القرار والذي سيدفع سوريا إلى الانتقال من الحضن الإيراني إلى الحضن التركي وسيكون لها الدور الأكبر في إعادة إعمار سوريا، وبالإضافة إلى أن جميع الدول الخارجية ستلجأ إلى تركيا بما يتعلق بمصالحها في سوريا، وستعمل الولايات المتحدة على إعادة ضبط قواعدها العسكرية في شرق الفرات ضمن السياق الإقليمي الجديد الذي ستتجه نحوه الدولة السورية. أكثر من ذلك، إن المكسب التاريخي التي حققته تركيا يتعلق بالصراع حول الحدود حيث سقطت المنازعات التاريخية التي أسست لتلك الحدود، ومنحت تركيا مناعة جيوبولوتيكية دولية وإقليمية ستعزز قوتها ويتوقع أن تلعب تركيا أدواراً أكبر في القضايا الشائكة في المنطقة.
تركيا والتوازن الاستراتيجي الدولي
إن التحدي الذي أقدمت عليه تركيا في إسقاط النظام في سوريا وتشريع المنطقة على سلسلة من النتائج والمتغيرات هو نفسه يشكل مواجهة جيوبوليتيكا للمعطيات الروسية والإيرانية، ويصب في مصالح المعطيات الجيوبولتيكية الأمريكية وحلف الناتو، وحافظت في نفس الوقت على عدم إلحاق الضرر المباشر بالمصالح الروسية والإيرانية لاعتبارات تتعلق بمصالح الأتراك أنفسهم، ولم تحرج الدولتين مباشرة ولكن الخسائر الاستراتيجية ستظهر مع الوقت وستترجم من خلال الطبيعة السياسية للنظام الجديد والتي تتجه نحو الخروج النهائي من الصراع مع إسرائيل والدفع نحو إخراج القوات الروسية من قواعدها العسكرية الوحيدة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. وظهر النجاح التركي عبر التعاطي الروسي والإيراني مع المسألة بالأدوات الدبلوماسية والتصريحات السياسية مما ألحق أضراراً واسعة بسمعة الدولتين وبخيارتهما الاستراتيجية.
منذ بداية الأزمة السورية عام 2011 قامت تركيا بمجموعة من الخطوات الميدانية والسياسية، احتضنت المعارضة المسلحة بمعظم فصائلها ودربتها وقدمت لها الدعم المالي والعسكري وقدمت طروحات سياسية تتعلق بتغيير النظام القائم، وعندما تهاوت المعارضة المسلحة أمام ضربات النظام وحلفائها أنتجت تسوية "أستانة"، تمكنت بموجبها من المحافظة على محافظة إدلب بيد حلفائها وراحت تناور سياسياً في سبيل تقطيع الوقت حتى أصبح الجيش السوري في حال من الضعف الشديد وفقد النظام معظم موارده الاقتصادية، ترافق ذلك مع الانشغال الروسي بحرب أوكرانيا وانشغال إيران وحلفائها في الحرب مع "إسرائيل"، وانسحاب جميع الفصائل المسلحة الخارجية التي قاتلت إلى جانب النظام من معظم الأراضي السورية بطلب من الرئيس الأسد نفسه، كل هذه الوقائع، دفع تركيا العضو في حلف الناتو، إلى التحرك ودفع الفصائل المسلحة التابعة لها إلى عملية عسكرية شاملة تمكنت بنتيجتها من إسقاط النظام.
الأتراك واحتواء النشاطات الكردية
يمثل الملف الكردي الخطر الأكبر على الأمن القومي التركي، وتنظر تركيا إلى الكيانات الكردية بصفتها خطراً وجودياً على أمن الدولة نفسها، ومصدر الخطر الرئيسي كان قادماً من الحدود السورية والعراقية، وما كان يقلق تركيا كيفية تعاطي الدولة السورية مع هذا الملف واستخدامه في الصراع معها، وقد لجأت المجموعات الكردية بعد اندلاع الأزمة السورية إلى السيطرة العسكرية على مساحات واسعة من الأراضي السورية المحاذية للحدود التركية مما دفع الجيش التركي إلى التدخل العسكري المباشر وإقامة منطقة أمنية عازلة، بالإضافة إلى عملها على دعم المجموعات المسلحة المعارضة للنظام القائم، وتقويتها في المناطق السورية المقابلة للحدود التركية.
وتعمل تركيا عبر الجيش الوطني السوري إلى السيطرة على جميع المناطق الكردية وتنفيذ مخططاً كاملا لكيفية معالجة الملف الكردي عبر بناء حزام أمني يعزل المناطق الكردية بالمطلق عن الحدود التركية.
تملك تركيا حدود برية مع سوريا تصل إلى 822 كلم، وهي أطول حدود برية مع جميع الدول المحاذية لها وأصبحت كامل حدود تركيا الجنوبية البرية آمنة ويبقى الجزء المتعلق بالحدود العراقية مرتبط بالوجود العسكري الأمريكي في شرق الفرات، والذي بدورها متعلق بالعلاقات والدعم الأمريكي للقوات الكردية ويظهر بشكل جلي عبر الدفع الأمريكي المستمر من أجل بناء كيان كردي مستقل يربط شرق الفرات مع كردستان العراق، وهذا ما يشكل القلق التركي والتباين القائم مع الولايات المتحدة بشكل رئيسي حول الملف السوري. تؤشر الاندفاعة التركية إلى خضوع التسويات القادمة إلى التوازن القائم بما فيها المفاهيم الأمريكية للعلاقة مع الكيانات الكردية وتعمل على إسقاط جميع التهديدات القادمة منها.
استشراف المستقبل
يعمل الرئيس التركي على عودة اللاجئين السوريين الموجودين على الأراضي التركية إلى العودة إلى بلادهم بعد أن تسبب وجودهم بإثارة نعرات عرقية أثرت على شعبيته، وبالتالي هناك مكاسب سياسية داخلية سيحققها بعد عودتهم.
ستكتسب الدولة التركية القائمة حالياً بقيادة رجب طيب أردوغان مزيداً من الثقة الداخلية من شعبها وسيدفع الثقافة والتاريخ التركي بالصفة العثمانية إلى المقدمة في الخطاب نحو الشعوب العربية والإسلامية وأصبحت قابليته الشعبية أكثر مرونة وسلاسة بين الشعوب التي تتنازعها الأفكار والأيديولوجيات التي لم تقدم لها حلول منذ عشرات السنين.
وتتمثل التحديات التي ستواجه تركيا على الجغرافيا السورية بالمشروع الإسرائيلي وكيفية التعامل والذي يهدف إلى جعل سوريا دولة فاشلة، والتحدي الآخر يتمثل في البنية الداخلية للنظام القادم ومدى المرونة السياسية في التعامل مع القوى المجتمعية. أثبتت تركيا خلال الأزمة السورية قدرة متقدمة على إدارة مصالحها الجيوبولتيكية على الجبهة السورية، وتمكنت بفعل الموارد والزخم الدولي التي تأمن لإسقاط النظام في سوريا من تحقيق الانتصار، ويبقى التحدي الأكبر في القدرة التركية على الحفاظ على هذا الانتصار وكيفية التعامل مع الحقائق المتوقعة والمستجدة داخلياً وخارجياً بعد سقوط النظام السوري.