د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
أثارت إدارة القيادة الأمنية الإسرائيلية لحربي غزة ولبنان تساؤلات عديدة من قبل المراقبين والخبراء العسكريين في مختلف أنحاء العالم، عن السر الكامن وراء عدم نفاد مخزون بنك الأهداف لدى الكيان الغاصب الذي لم يفرغ حتى الآن، خصوصًا أنه منذ 8 أكتوبر 2023 وحتى الآن، لم تتوقف آلة الحرب الصهيونية عن ضرب ما تصفه إسرائيل بأنه مواقع ومنشآت وقيادات ومراكز لحماس وحزب الله في كل من لبنان وفلسطين (والواقع أن جزءًا كبيرًا منها كان صحيحًا).
أما الإجابة عن هذه الاستفسارات، فتكمن بالآتي: فتش عن مصانع الذكاء الاصطناعي التي ساهمت طوال فترة الحرب في توليد وإنشاء هذه الأهداف الحيوية من جهة، ورفعت بشكل مهول أعداد الشهداء من المدنيين والأطفال في كلا البلدين من ناحية أخرى.
وبناءً على ذلك، سنتناول في سلسلة ، دور الذكاء الاصطناعي في حربي غزة ولبنان وكيفية سقوط هذه الأعداد غير المسبوقة من الشهداء. كما سنتحدث أيضًا عن أسماء البرامج والتقنيات التي استخدمت وعيوبها، فضلاً عن التحول النوعي الذي طرأ على آلية التفكير الاستخباراتي للوحدة 8200 في السنوات القليلة الماضية.
"هبسورا" أو"الإنجيل" وصناعة الأهداف
بعد الاستفاقة الإسرائيلية من صدمة عملية طوفان الأقصى، أمطر جيش الاحتلال غزة بالقنابل، معتمدًا على قاعدة بيانات تم جمعها بعناية على مر السنين، وقد ضمت عناوين منازل، أنفاق، وبنية تحتية أخرى حيوية لحماس. وهذا الأمر سرى على جنوب لبنان بداية، ثم الضاحية وبيروت والبقاع لاحقًا.
لكن عندما بدأت قائمة الأهداف بالنفاد، لجأت تل أبيب إلى أداة متطورة تعتمد على الذكاء الاصطناعي تُدعى "هبسورا" أو "الإنجيل"، وهي تتميز بقدرتها السريعة والمذهلة على توليد مئات الأهداف الإضافية. وهو ما سمح للعدو بمواصلة حملته الدموية دون انقطاع في غزة ولبنان.
من هنا، عُدّ هذا الاستعمال للتطور التكنولوجي الهائل المثال الأبرز على كيفية مساهمة الخطة الإسرائيلية التي استمر العمل بها عقدًا من الزمن، لوضع أدوات الذكاء الاصطناعي المتقدمة في صلب العمليات الاستخباراتية للجيش الإسرائيلي، وبالتالي رفع مستوى دموية هذه الحرب.
ومع أن الجيش الإسرائيلي أعلن عن وجود هذه البرامج، والتي تشكل ما يعتبره بعض الخبراء مبادرة الذكاء الاصطناعي العسكرية الأكثر تقدمًا على الإطلاق، إلا أنها بالمقابل أدت إلى اندلاع جدل حاد داخل أعلى المستويات القيادية في المؤسسة الأمنية الصهيونية.
كان هذا الجدل قد بدأ قبل 7 أكتوبر بسنوات، وتطرق إلى جودة المعلومات الاستخبارية التي يجمعها الذكاء الاصطناعي، وما إذا كانت توصيات التقنيات قد حظيت بتدقيق كافٍ، أو أن التركيز على هذا الذكاء قد أضعف القدرات الاستخباراتية لجيش الاحتلال.
زد على ذلك أن بعض المعارضين ــــ داخل جيش العدو ـــ للاعتماد المفرط على برنامج الذكاء الاصطناعي، اعتبروا أن هذه الأدوات كانت بمثابة قوة من وراء الكواليس أدت إلى تسريع القتل بغزة (والذي تجاوز 45 ألف شخص) أكثر من نصفهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة بالقطاع.
ليس هذا فحسب، وفي حين يقول أشخاص مطلعون على ممارسات قوات الاحتلال - لصحيفة "واشنطن بوست"، بمن فيهم جنود خدموا في الحرب ــ إن ضربات الجيش الإسرائيلي زادت بشكل كبير من عدد الضحايا المدنيين (استنادًا إلى المعدل المقبول قتله) مقارنة بالمعايير التاريخية. لم يتردد آخرون في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، في دعم هذا التحول الذي يعتمد بشكل رئيسي على الآلة الذكية، كونها سهّلت صناعة كميات كبيرة من الأهداف بسرعة، بما فيها التعرّف على المقاومين من الرتب الدنيا الذين شاركوا في هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وتعقيبًا على ذلك، أكد ستيفن فيلدشتاين، زميل بارز في مؤسسة كارنيجي (باحث في استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب): "ما يحدث في غزة هو نذير لتحول أوسع في كيفية خوض الحرب". وأضاف: "يبدو أن الجيش الإسرائيلي قد خفض عتبة المعدل المقبول للضحايا المدنيين خلال حرب غزة".
التحول في عمل الوحدة 8200
عمليًا، وفي عهد رئيسها الحالي يوسي سارييل، خضع قسم استخبارات الإشارات الشهير في الجيش الإسرائيلي، والمعروف باسم الوحدة 8200، لعملية إصلاح شامل منذ عام 2020، مما أحدث تغيرًا في عمل الفرقة وممارسات جمع المعلومات الاستخباراتية.
دافع سارييل عن تطوير "الإنجيل" (Gospel)، وهو برنامج للتعلم الآلي مبني على مئات من الخوارزميات (هي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما) التنبؤية، والذي يسمح للجنود بالاستعلام بسرعة عن مجموعة كبيرة من البيانات المعروفة داخل الجيش باسم "المجمع".
تقوم الخوارزميات بمراجعة كميات هائلة من البيانات من الاتصالات المُعترَضة (لحزب الله وحماس)، ولقطات الأقمار الصناعية، وشبكات التواصل الاجتماعي، لتقديم إحداثيات الأنفاق والصواريخ وغيرها من الأهداف العسكرية. بعدها يقوم ضابط كبير بوضع التوصيات التي عمل على فحصها محلل استخباراتي في بنك الأهداف المحدد.
وعليه، ومن خلال استخدام برنامج التعرف على الصور، يستطيع الجنود اكتشاف أشكال دقيقة، لتغييرات طفيفة من لقطات الأقمار الصناعية لغزة ولبنان حدثت على مدى سنوات، وتشير إلى أن حماس أو حزب الله دفنوا قاذفة صواريخ أو حفروا نفقًا جديدًا على الأراضي الزراعية. ووفقًا لقائد عسكري سابق عمل على هذه الأنظمة، تمكن البرنامج من اختصار عمل يستغرق أسبوعًا، إلى 30 دقيقة فقط.
برامج القتل الذكية التي تستخدمها الوحدة 8200
إضافة إلى تلك الأنظمة أعلاه، تعتمد الوحدة 8200 على برنامج آخر يُعرف باسم "لافندر" (Lavender) الذي يستخدم نظام تقييم بنسبة مئوية للتنبؤ بمدى احتمال أن يكون شخصًا ما، عنصرًا في حماس أو حزب الله، مما يسمح للعدو بتوليد عدد كبير من الأهداف البشرية المحتملة بسرعة.
أكثر من ذلك، توجد في الوحدة برامج خوارزمية أخرى (لم يتم الإبلاغ عنها مسبقًا) تحمل أسماء مثل: Alchemist وDepth of Wisdom وHunter وFlow، وجميعها تسمح للجنود بالاستعلام عن مجموعات بيانات مختلفة.
العيوب الأساسية في برامج الذكاء الاصطناعي التابعة للوحدة 8200
لطالما أعرب العديد من ضباط الوحدة عن مخاوفهم من أن تقنية التعلم الآلي (هي فرع من فروع الذكاء الاصطناعي يركز على تطوير الأنظمة والبرمجيات التي تستطيع التعلم من البيانات وتحسين أدائها مع مرور الوقت دون الحاجة إلى برمجة صريحة) التي سرّعت عملية صنع القرار، تخفي العيوب الأساسية.
ولهذا، كشف تدقيق داخلي في الوحدة، أن بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي لمعالجة اللغة العربية كانت تحتوي على معلومات غير دقيقة، وفشلت في فهم الكلمات والعبارات العامية الرئيسية، بحسب قائدين عسكريين إسرائيليين كبيرين سابقين.
كما تتنبأ تكنولوجيا التعلم الآلي بعدد المدنيين الذين قد يتأثرون بالهجمات. ففي حربي غزة ولبنان، كان يتم استخلاص تقديرات عن عدد المدنيين الذين قد يتضررون في غارة جوية من خلال برامج التنقيب عن البيانات، وذلك باستعمال تقنيات التعرف على الصور لتحليل اللقطات المرسلة من طائرات بدون طيار، إلى جانب إشارات الهواتف الذكية المتصلة بأبراج الإرسال الخاصة بها. أما الهدف فهو إحصاء عدد المدنيين في منطقة ما.
وتبعًا لذلك، أوضح تال ميمران، المستشار القانوني السابق للجيش الإسرائيلي، أنه في عام 2014، كانت نسبة الضحايا المدنيين (وفقًا للمعدل المقبول لدى الجيش الإسرائيلي) هي مدني واحد مقابل "قيادي" رفيع المستوى. غير أنه في حربي غزة ولبنان، ارتفع العدد إلى حوالي 15 مدنيًا لكل عنصر في حماس أو حزب الله، و"ترتفع بشكل كبير" بالنسبة لأصحاب الرتب المتوسطة والعالية. والكلام هنا على ذمة "منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية كسر الصمت"، نقلاً عن شهادات عديدة من جنود الاحتلال.
وبالمثل، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في وقت سابق من هذا الأسبوع أن العدد هو 20 مدنيًا مقابل قتل عنصر واحد من الحزب أو حماس.
في المحصلة:
أعادت قيادة سارييل وغيرها من قادة الاستخبارات هيكلة وحدة 8200، لتركيزها على المهندسين، مما أدى إلى تقليص عدد المتخصصين في اللغة العربية، وإقالة العديد من القادة الذين اعتُبروا مقاومين للذكاء الاصطناعي، وحلّ بعض المجموعات التي لم تكن تركز على تكنولوجيا التنقيب عن البيانات. لذا، وبحلول 7 أكتوبر، كان 60٪ من موظفي الوحدة يعملون في مجالات الهندسة والتكنولوجيا، أي ضعف العدد الذي كان عليه قبل عقد من الزمن.
في الحلقة الثانية: كيف وفرت وسائل التواصل الاجتماعي، والرسائل المباشرة والخاصة، والبريد الإلكتروني، وسجلات المكالمات، وغيرها من آثار الإنترنت منجمًا من البيانات لوكالات الأمن القومي الإسرائيلي.