د.علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
لم تكد روسيا تستفيق بعد من صدمة خسارة سوريا، حتى عاجلتها الحكومة السورية بقيادة أحمد الشرع بضربة أخرى على الرأس أشد وقعًا وأكثر إيلامًا، عندما ألغت عقد الإيجار الروسي لقاعدتها البحرية في ميناء طرطوس السوري على البحر الأبيض المتوسط، مما يزيد من تقييد الوجود الروسي في البلاد منذ سقوط نظام الأسد السابق الشهر الماضي.
وإذا كان قرار رئيس تحرير الشام أعلاه يعدّ، بما لا يدع مجالًا للشك، خسارة استراتيجية كبرى لروسيا، فإنه يشكل بالمقابل، برأي الخبراء والقيادات الأمريكية، فرصة للولايات المتحدة للحلول مكان موسكو، وبالتالي الاستيلاء على تلك القاعدة المهمة التي ستعزز أكثر فأكثر الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. وبالطبع سيعود هذا التحوّل على إسرائيل أولًا وأخيرًا بالمنافع والفوائد العسكرية والاستخبارية العديدة.
أمريكا وسياسة ملء الفراغات الروسية
صحيح أن الرئيس دونالد ترامب كان وعد قبيل انتخابه بأن يكون حذرًا بشأن إرسال القوات الأمريكية إلى الخارج، لكنه في الوقت نفسه يجادل، ويتفق معه معظم الأمريكيين، بأن الولايات المتحدة قد نشرت عن طيب خاطر قوات عسكرية أمريكية في بلدان مختلفة، بغض النظر عن الشرعية أو الحكمة الأوسع من هذا الإجراء.
وبناءً على ذلك، ينصح مسؤولون أمريكيون سابقون ترامب بعدم الانخراط في سباق أساسي لتوسيع هذا الوجود، والاستعاضة عنه بالتركيز إما على فرض إغلاق قواعد المنافسين لتجنب الحاجة إلى نشر القوات الأمريكية، أو ببساطة السيطرة على مواقع الخصوم الاستراتيجية، ومن بينها قاعدة طرطوس البحرية.
علاوة على ذلك، ثمة سبب آخر قد يدفع واشنطن إلى توجيه اهتمامها إلى ميناء طرطوس، ألا وهو التنافس المتزايد مع القوى الكبرى، والذي قد يشجع واشنطن على توسيع وجودها في سوريا، انطلاقًا من المعادلة التالية: إذا كانت روسيا والصين قد زادتا وجودهما في الخارج، فإن ذلك يعطي مبررًا لإدارة ترامب لتوسيع وجودها العسكري بالمقابل.
وفي حين لا يرغب الجمهور في أن تكون القوات الأمريكية متورطة في أي حرب، فإن ملء الفراغات يجعل احتمال الصراع أقل احتمالًا، خصوصًا أن الردع يتطلب الانتشار، بينما الانسحاب يشجع الأعداء، وهو حتمًا ما لا تحبذه واشنطن.
معاناة روسيا مع إغلاق قواعدها العسكرية في الخارج
في الحقيقة، عكس تاريخ روسيا في طرطوس تقلبات قوتها. ففي العام 1967، أنشأ الاتحاد السوفياتي السابق السرب الخامس في البحر الأبيض المتوسط بهدف موازنة الأسطول السادس الأمريكي الذي يعمل في نفس المنطقة من جهة، ولدعم الطموحات السوفيتية في مصر من جهة ثانية.
ولسوء الحظ، خرجت البحرية الروسية بعد عقود قليلة لفترة وجيزة من البحر المتوسط بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لكن ما لبث أن أعادها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعدما أنشأ قوة عمل بحرية مكونة من 16 سفينة في مايو/ ايار 2013، استقرت في ميناء طرطوس.
وتبعًا لذلك، يعتبر الساسة الغربيون أن خروج روسيا الحالي من شرق البحر الأبيض المتوسط، على الأقل مؤقتًا، يجعل المنطقة أكثر أمانًا.
فبالرغم من أن السفن الحربية الروسية ما زالت قادرة على الإبحار في مياه المتوسط، إلا أن القيام بأي عمليات مستقبلية سيكون مهمة صعبة في غياب أي مركز لوجستي قريب.
الجدير بالذكر أن طرطوس وقاعدة حميميم الجوية كانتا القاعدتين الوحيدتين المتبقيتين لروسيا خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق، في أعقاب إغلاق القواعد الروسية في كوبا عام 2002، ثم في فيتنام بعد ذلك بعامين. ومع أن روسيا تستمر حاليًا في سعيها للحصول على قواعد في السودان وإريتريا، إلا أن هذه المحاولات تبقى إلى حد كبير حبرًا على ورق حتى الآن.
ففي الواقع، كلما اقترب الروس من إبرام صفقة لإنشاء قاعدة على البحر الأحمر، تتدخل الدبلوماسية الذكية والأموال، التي تمر عبر السعودية أو الإمارات العربية المتحدة، وتعمل على تغيير مواقف المسؤولين السودانيين والإريتريين، مما يدفعهم للابتعاد عن إبرام أي اتفاق إيجار مع موسكو.
كما أن طرطوس ليست القاعدة الأولى التي يخسرها الروس.
فقد بنى السوفييت مطار بربرة وميناء المياه العميقة في الصومال في منتصف السبعينيات، لكنهم خسروهما بعدما أصبحت سياسات هذا البلد ــ في وقت لاحق من ذلك العقد في فترة الحرب الباردة ــ على المقلب الآخر المعادي لموسكو.
شواهد عن انتقال القواعد العسكرية بين القوى الكبرى
عمليًا، شهد العالم العديد من وقائع انتقال القواعد العسكرية بين الأعداء. ففي العام 1923، بنَت إيطاليا مطار ملاحة شرق طرابلس في ليبيا، حيث استخدمه الإيطاليون وسلاح الجو الألماني خلال حملتهم في شمال إفريقيا. وعندما احتلت بريطانيا ليبيا في الحرب العالمية الثانية، تحديدًا في العام 1942، أعادت لندن تسمية المطار "قاعدة ويلوس الجوية"، وأصبح بالتالي ركيزة أساسية للقوات الأمريكية في البحر المتوسط أثناء الحرب الباردة، واستمر الأمر حتى طرد الزعيم الليبي الأمريكيين في عام 1970.
بالمثل، وفي العام 1975، فقدت الولايات المتحدة القاعدة التي بنتها في خليج كام رانه في فيتنام لصالح السوفييت، بعد أن احتلت فيتنام الشمالية نظيرتها الجنوبية. وفي العام التالي، أي 1976، استفادت البحرية الأمريكية من التحولات الجيوسياسية، حينما غادرت بريطانيا البحرين، وسلمت قاعدتها لواشنطن. واليوم، تستقبل البحرين الأسطول الخامس في منشأة بنتها بريطانيا.
أكثر من ذلك، تسيطر "حركة طالبان" حاليًا أيضًا، على القواعد الأمريكية في أفغانستان، بما في ذلك قاعدة باغرام الجوية، التي ربما تؤجرها للصين. وفي السياق ذاته، توسّع الصين وجودها في أماكن أخرى أيضًا. إذ أنشأت البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني أول قاعدة بحرية لها في الخارج في جيبوتي عام 2017، حيث استغلت الصين هذه القاعدة للتشويش على عمليات القوات الأمريكية وإضعاف الأمن الإقليمي. فعلى سبيل المثال، أطلقت بكين أشعة ليزر على الطيارين الأمريكيين في البحر الاحمر، ويُزعم أنها زوّدت "جماعة الحوثيين" بالأسلحة مقابل الحصانة من الهجمات على السفن الصينية في باب المندب.
في المحصّلة:
يأخذ الخبراء العسكريون في مراكز الفكر الأمريكي، أن البنتاغون يتعامل مع الوجود العالمي للولايات المتحدة بشكل عشوائي، وينظر إلى خريطة قواعد خصومه كما لو كانت ثابتة لا تتغير، ويعتبرون أن كلا الموقفين خاطئان.
وبناءً على ذلك، يرى هؤلاء أنه إذا كان الفريق التابع لترامب في وزارة الدفاع يرغب حقًا في تحدي التفكير الجماعي البيروقراطي والرؤية الضيقة، فقد يكون من الأفضل أن يبدأ برسم استراتيجية لانسحاب الخصوم، ووضع خطة أكثر دقة لتمركز القواعد الأمريكية في الخارج. أما الترجمة الحرفية لهذه السياسة فقد تبدأ من طرطوس.