د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
لا يُحسد الأوروبيون على احوالهم المضطربة هذه الأيام، إذ تعيش دول القارة العجوز حالة من الخوف والهلع بعد الحديث عن فقدانهم المظلة الأمنية الأمريكية التي تنعَّموا بحمايتها لعقود طويلة. فالانطباع السائد لدى معظم القادة الأوروبيين هو أن الدورة الـ 61 لـ"مؤتمر ميونيخ" الألماني (كان عُقد في 14 شباط الجاري)، تمهّد لأفول نجم "الناتو"، خصوصًا وأن الإشارات الصادرة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمتعلقة بحلّ الأزمة الأوكرانية، ثم التصريحات المثيرة لنائبه جي دي فانس وانتقاداته اللاذعة لأوروبا في عقر دارها، كلها عوامل جعلت الأوروبيين يقرعون جرس الإنذار من وجود تحالف خفي روسي-أمريكي لتدميرهم.
التشابه بين مؤتمر ميونيخ لعام 2025 ووثيقة عام 1938
في الحقيقة، يحلو للسياسيين الأوروبيين الاستعانة بالتاريخ، والاستشهاد بصفحاته الحافلة بالكثير من الدروس والعِبر، لا سيما تشبيههم تنازلات ترامب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن أوكرانيا، بما حصل غداة توقيع "وثيقة ميونيخ" بين رئيس الحكومة البريطانية آنذاك نيفيل تشامبرلين في عام 1938، والزعيم النازي أدولف هتلر إلى جانب قادة آخرين، وهدفت في حينها إلى تجنب الحرب من خلال التوصل إلى اتفاق بشأن مطالب هتلر التوسعية.
لكن، ما حدث أن هذه الوثيقة لم تكن سوى وعد فارغ. حيث لم تمر سوى أشهر قليلة حتى غزا هتلر بولندا في سبتمبر 1939، مما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية. لذلك، أصبحت الوثيقة - التي كان تشامبرلين متمسكًا بها - رمزًا للفشل في مواجهة التوسع النازي، فضلًا عن اعتبارها بمثابة "تسوية خاضعة" (appeasement) أسفرت عن إعطاء هتلر مزيدًا من القوة والقدرة على المضي في مشاريعه التوسعية.
وانطلاقًا من هذا الخطأ، يشبّه العديد من السياسيين والدبلوماسيين الأوروبيين ما يصفونه بسياسة "الاسترضاء" من قبل ترامب لبوتين، بـ"التسوية الخاضعة" لتشامبرلين، كما يستحضرون العبارة الشهيرة للزعيم الإنجليزي ونستون تشرشل التي أطلقها في أعقاب توقيع تشامبرلين لوثيقة 1938 ومفادها: "لقد تم إعطاؤك الاختيار بين الحرب والعار. لقد اخترت العار وستكون لك حرب".
من هنا، فإن كلمة "الاسترضاء" تتردد حاليًا على شفاه الأوروبيين، كما أن صدى ميونيخ في عام 1938 يبدو نقطة مرجعية واضحة عند الأشخاص الأكثر حساسية من الناحية التاريخية مثل وزير الدفاع البريطاني السابق بن والاس.
وتبعًا لذلك، وعند تجمعهم من أجل القمة، كان المسؤولون الأوروبيون لا يزالون مصدومين من ملخص مكالمة ترامب الهاتفية التي استمرت 90 دقيقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكذلك من تصريحات وزير الدفاع الأمريكي بيتر هيغسيث في بروكسل منتصف الأسبوع الحالي. أما بالنسبة لوزير الخارجية الليتواني السابق غابريليوس لاندسبيرغيس، فكانت أكثر عبارة تم تجاهلها ومرعبة في آن، هي تلك الصادرة عن هيغسيث وتضمنت تحذيرا بأن "الواقع" سيمنع الولايات المتحدة من أن تكون ضامن الأمن لأوروبا، أي بمعنى آخر لن يكون هناك دعم أمريكي للحلف.
ولذلك، يشعر لاندسبيرغيس، ومثل الآخرين، بنهاية حقبة، حيث قال: "قد يكون ذلك بمثابة بداية غروب شمس الناتو، خصوصًا إذا أضفنا إليها، ما أعتقد أن واشنطن ستعلنه قريبًا - انسحاب 20 ألف جندي أمريكي من أوروبا".
اللافت في الأمر، أنه بينما كان المسؤول الليتواني يطلق العنان لمخاوفه لصحيفة بوليتيكو في ميونيخ، كان هيغسيث ينذر من وارسو، بسحب القوات وينبّه الأوروبيين المنهكين بالفعل، قائلًا: "الآن هو الوقت المناسب للاستثمار، لأنك لا تستطيع أن تفترض أن الوجود الأميركي سوف يستمر إلى الأبد".
أمريكا والفشل في محاولة تهدئة المخاوف الأمنية الأوروبية
بعد البلبلة التي أحدثتها تصريحات القيادات الأمريكية بشأن مستقبل العلاقة الأمنية مع القارة الأوروبية، حاول أعضاء الكونغرس الأمريكي (الحاضرون في القمة) تقديم جرعات من الاطمئنان لأوروبا القلقة - رغم أن ذلك لم ينجح بشكل كبير.
وفي هذا السياق، اعترف رئيس لجنة الخدمات المسلحة القوية في مجلس الشيوخ روجر ويكر، بأن هيغسيث ارتكب "خطأ مراهقًا" في بروكسل، وأضاف: "لا أعرف من كتب الخطاب - لكن ربما كان يمكن أن يكون قد كتبه تاكر كارلسون. كارلسون أحمق"، وتابع مطمئنًا أن "هناك الكثير من الأشخاص الجادين حول ترامب الذين يستمع إليهم".
كما أشار ويكر إلى أن "هيغسيث قد تراجع عن بعض من تصريحاته القاسية، لكنه أقرّ بأنه لم يفعل ذلك بعد عندما يتعلق الأمر بفقدان أوروبا للضمان الأمني الأمريكي - وهو ما يقوض المادة 5 من حلف الناتو التي تلزم أعضاء الحلف بالدفاع الجماعي".
وعدا عن هذا النهج الواضح الذي تتبعه إدارة ترامب تجاه العلاقات الأمنية المستقبلية مع أوروبا، هناك أيضًا عبارات قاسية أخرى فعلت فعلها في نفوس الأوروبيين مثل: "لا تخطئوا، الرئيس لن يسمح لأي شخص بتحويل العم سام إلى 'العم المغفل'"، وهذا بدوره وضع أوروبا على حافة الهاوية.
فانس على خطى هيغسيث: تقريع الأوروبيين
عمليًا، في حين لم يكد يهدأ غضب الأوروبيين من كلام هيغسيث المراهق (على حد تعبير المشرّع الأمريكي ويكر)، جاء الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس جي دي فانس في ميونيخ، وركز فيه على انتقاد الممارسة الديمقراطية في أوروبا، ليزيد الطين بلة. فمع أنه لم يفعل شيئًا لتخفيف هواجس الأوروبيين والأمريكيين المؤيدين لحلف شمال الأطلسي، إلا أن فانس أثار حفيظة الأوروبيين عندما بدأ يتحدث عن الهجرة باعتبارها تهديدًا للحضارة الأوروبية، معتبرًا: "إن التهديد الذي يثير قلقي أكثر تجاه أوروبا، ليس روسيا أو الصين، أو أي جهة خارجية أخرى. ما يقلقني هو التهديد من الداخل".
ولهذا، قال الأكاديمي والدبلوماسي الأمريكي السابق مايكل ماكفول: "فكّر في جرأة شخص ترشح مع رجل ألهم أعمال شغب ضد الكونغرس في عام 2020، ليأتي إلى أوروبا ويقول: يا رفاق، لديكم مشاكل مع الديمقراطية... بالمقابل لدينا أزمة دستورية مستمرة الآن مع تجاوز السلطة التنفيذية وصحة الديمقراطية الأمريكية".
في المحصّلة
منذ ثلاث سنوات، بدا أن غزو روسيا لأوكرانيا جعل حلف الناتو أكثر أهمية مما كان عليه من قبل، بعد أن انتهت عملية البحث عن سبب وجوده في عالم ما بعد الحرب الباردة. لكن وفقًا للأوروبيين، كان من الصعب - في اليوم الأول لقمة ميونيخ - التخلص من الشعور بأننا نشهد بداية انفصال.
وانطلاقًا من هذه النقطة، دقَّ أحد كبار الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي ناقوس الخطر لصحيفة POLITICO، قائلًا: "لقد أصبح لدينا الآن تحالف بين رئيس روسي يريد تدمير أوروبا ورئيس أمريكي يريد أيضًا تدمير أوروبا".