د. علي ناصر ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
يرتكز المشروع الصهيوني في قوته الدولية على الغرب عموماً، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، التي تندفع لتغطية أفعال الكيان الصهيوني متكئة على عامل ديني يبدو أنه عامل أساسي في كسب الرأي العام الأمريكي الذي تحكمه الثقافة التوراتية تجاه الكيان الصهيوني.
لم يتمكن السياسيون الأمريكيون من تجاوز المسألة الثقافية-الدينية لأكثرية الشعب الأمريكي في مقاربة الصراع العربي-الصهيوني. أكثر من ذلك، تغلب على الحزب الجمهوري بقيادة الرئيس "دونالد ترامب" الرؤية الدينية في تأييده للكيان الصهيوني، وهو ما عبر عنه السفير الأمريكي الجديد في "إسرائيل" "مايك هاكابي" الذي قال: "سيحققون شيئاً ذا أبعاد توراتية في الشرق الأوسط".
يرتكز المشروع الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية على "الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية" التي شكلت الاتجاهات الصهيونية في الحياة الثقافية والسياسية الأمريكية، وتقدم الدعم المادي والسياسي والمعنوي لإسرائيل التي تترجمه من خلال التهويد والاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
العامل الديني في تأسيس الولايات المتحدة
تشكلت هوية الدولة الأمريكية من الأفكار التي حملها المهاجرون الأوائل إلى القارة الأمريكية منذ القرن 17، وكان غالبية المهاجرين ينتمون إلى الأصولية المسيحية البروتستانتية التي تأثرت باليهودية إلى درجة التطابق مع الأفكار اليهودية الصهيونية، وانبثقت عنها ما يطلق عليه الصهيونية المسيحية التي تؤمن "بعودة اليهود إلى فلسطين وإقامة وطن قومي لهم يمهد لعودة المسيح الثانية".
تأسست الولايات المتحدة على أيدي البيوريتانيون (التطهريون)، الذين اعتبروا أنفسهم "أبناء إسرائيل"، ومعهم انتقلت الصهيونية المسيحية إلى أمريكا التي حملت معها القناعات والتفسيرات التوراتية للعهد القديم التي كانت سائدة ومنتشرة في أوروبا. ترسخت هذه المعتقدات عبر برامج التدريس في المدارس والجامعات الأمريكية التي كانت ترتكز على مبدأ أساسي يحمل شعار "عودة اليهود إلى فلسطين، وبناء دولتهم هناك تمهيداً للعودة الثانية للمسيح".
والجدير بالذكر، أن اللغة العبرية كانت أحد الأدوات الثقافية التي استخدمت في "جامعة هارفرد"، التي تأسست عام 1636، والتي فرضت على الطلاب الإلمام باللغة العبرية كشرط لقبولهم في صفوفها. ودفع ذلك العديد من الشخصيات العامة الأمريكية ورجال الدين إلى زيارة فلسطين في القرن 19 ومنهم القس "جون ماكدونالد". ثم زارها أحد قادة البروتستانت ويدعى "ووردر غريسون" الذي تحول إلى الديانة اليهودية "واصبح مستشاراً غير رسمي للولايات المتحدة في القدس ثم قنصلاً لها عام 1852".
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر الرئيس الأمريكي "جون آدامز" (1797-1801) أول رئيس أمريكي "يدعو إلى استعادة اليهود وطنهم في فلسطين وإقامة حكومة مستقلة".
إلى جانب ذلك، أسست العديد من المنظمات والبعثات التي عملت على "دعوة اليهود إلى العودة للأراضي المقدسة في فلسطين"، وأهمها "الزمالة اليسوعية الأمريكية" وهي من أوائل "جماعات الضغط أو اللوبي التي تدعم وتروج للصهيونية السياسية التي تأسست عام 1887. يمكن القول أن الرئيس الأمريكي "وودرو ويلسون" (1913-1921) أكثر الرؤساء الأمريكيين وقتها متأثراً بالصهيونية حيث كان ابن أحد رجال الكنيسة الإنجيلية المسيحية. والمثير هنا، أن الرئيس "ولسون كان موافقاً على وعد بلفور ولكن الأمر بقي سرياً من أجل عدم إحراج السياسة الدولية للولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الأولى. في الواقع، وافقت حكومة الولايات المتحدة عام 1922 على وعد بلفور، بالإضافة إلى التأييد المطلق لإعضاء الكونغرس الأمريكي من الحزب الجمهوري والديمقراطي لهذا الوعد.
راحت الصهيونية المسيحية تنظر إلى إسرائيل بعد تأسيسها كعمل "إلهي" يؤكد معتقداتها ويؤكد وجوب دعمها تمهيداً لعودة المسيح، ثم أخذت تعمل على تقوية شرعية الدولة المنبثقة من "الرؤية التوراتية"، وتنادي وفقاً لمعتقداتها في "حق إسرائيل التاريخي في الضفة الغربية وقطاع غزة"، والتزمت هذه الجماعة بأمن إسرائيل (وهو شعار يتردد بشكل كثيف على لسان الساسة الأمريكيين) كأولوية للولايات المتحدة.
الصهيونية والطوائف الدينية في الولايات المتحدة
يتوزع المجتمع الأمريكي على عدد من الطوائف الدينية التي تنشط في المجال السياسي، ورغم سعي الأطر الحاكمة على إخفاء العامل الديني بصفته أحد المكونات الأساسية في محددات السياسات الأمريكية داخلياً وخارجياً، في الحقيقة، يتشكل المجتمع الأمريكي من البروتستانت (47%)، والكاثوليك (21%)، واليهود (2%)، والمسلمين (1%)، وكنيسة السيد المسيح (1.7%) بالإضافة إلى انتماءات أخرى تشمل السيخ والبوذيين. فالبروتستانتية هي أكبر الطوائف عدداً وتضم أكثر من 200 طائفة، ولكنها تنقسم بالمعنى العام إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول ويسمى "كنائس البروتستانت الأنكلوسكسين البيض" ولها تأثير كبير في صناعة السياسة الأمريكية، وتضم هذه الفئة التيار الصهيوني المسيحي الأصولي. والقسم الثاني يمثل البروتستانتية الليبرالية وتعارض فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين وتضم آراء تنتقد باستمرار السياسات الإسرائيلية، ويعتقدون بأن اليهود لم يسيطروا على فلسطين التاريخية. في الحقيقة، ترتبط البروتستانتية الليبرالية بمنطقة الشرق الأوسط عبر مصالح تجارية وعلاقات دينية، وينشطون في مجالات البعثات التبشيرية. تعتبر البروتستانتية الليبرالية أول من أسس علاقات للولايات المتحدة مع المشرق العربي وهم الذين أسسوا "الكلية الإنجيلية السورية عام 1866 التي أصبحت فيما بعد "الجامعة الأمريكية في بيروت" عام 1920. كذلك أسس البروتستانت الليبراليون الجامعة الأمريكية في القاهرة عام 1919.
الصهيونية المسيحية وصناعة القرار داخل الولايات المتحدة
تُصنع السياسة الأمريكية عبر آليات معقدة ومتعددة تتداخل فيها مجموعة من المؤسسات والجماعات التي تشمل مؤسسات الفكر، والجامعات، والشركات الاقتصادية ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى جماعات الضغط والمصالح التي تمثل المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وجماعات القضايا التي تضم المنظمات الدينية. الجدير بالذكر، أن الحركة المسيحية الأصولية أسست مجموعة هائلة من قوى الضغط التي تملك عدداً من الكنائس تنتشر على مساحة الولايات المتحدة حيث تلعب دوراً رئيسياً في توجيه السياسة العامة الأمريكية الداخلية والخارجية.
شكلت جماعات الضغط المسيحية الصهيونية الأصولية تحالفات مع اليمين الأمريكي المحافظ الذي يصبو إلى التغيير الجذري للمجتمع الأمريكي.
تنتشر جماعات الضغط الصهيونية المسيحية في جميع الولايات الأمريكية، وهي بالعشرات، وتمارس نشاطات متنوعة سياسية واجتماعية ودينية في مناسبات عديدة تهدف جميعها إلى التضامن مع إسرائيل، تتنوع نشاطاتها من عرض الأفلام، وإلقاء المحاضرات، ومخاطبة الصحف وتنظيم التظاهرات، ومسيرات التضامن مع إسرائيل وتسيير رحلات التأييد والدعم لإسرائيل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
يعتبر "المصرف المسيحي -الأمريكي لأجل إسرائيل" أخطر تلك الجماعات التي تعمل على دعم السياسة التهويدية للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عبر شراء الأراضي أو الاستحواذ عليها ودعم بناء المستوطنات وتوسيعها.
من جهة ثانية، أنشأت الحركة الصهيونية المسيحية "السفارة المسيحية الدولية-القدس، عام 1980 من أجل التركيز على أهمية القدس في العقل الديني للمسيحية الصهيونية، وتنتشر هذه المنظمة في معظم الولايات الأمريكية، وفي أكثر من 40 دولة حول العالم حيث يعبرون عن أنفسهم بأنهم "أكثر صهيونية من الإسرائيليين أنفسهم، وأن الله قد أعطى هذه الأرض لإسرائيل إلى الأبد".
تفترض المواجهة التي تحصل على الأراضي الفلسطينية-العربية إدراك الأبعاد الثقافية لها التي تدفع الدبلوماسيين الأمريكيين إلى تقديم أنفسهم بصفتهم الدينية وخلفياتهم التوراتية في مقاربتهم للصراع العربي-الصهيوني. هناك تآلف بين الدين والسياسة في المقاربات الرسمية الأمريكية للصراع حول فلسطين وهو ضرورة سياسية دولية مرتبط بالمبادئ التي تقدمها الولايات المتحدة للعالم ومرتبطة أيضاً بالصراع حول المنطقة، تدمج الولايات المتحدة في الصراعات والمواجهات الدولية التي تخوضها بين السياسي والديني والتجاري والثقافي في آن وهي غير معنية بتقديم تفسيرات حول التناقض بين الشعار والواقع بفعل عامل القوة التي يحميها ويحصنها من المسائلة.