فادي الحاج حسن
خطورة العلوم في يد الإنسان:
لا تكمن الخطورة الحقيقية للعلوم في مضامينها النظرية، بل في كيفية توظيفها؛ فالعلم سلاح ذو حدّين قد يُحرِّر البشرية أو يستعبدها. ويُعد علم الاجتماع من أخطر الحقول المعرفية في هذا السياق، لقدرته على فك شفرات البنى الاجتماعية وتوجيه الوعي الجمعي. فمنذ نشأته، استُخدم هذا العلم أحيانًا كأداة لـتكريس الهيمنة بدلًا من فضحها، كما في حالة الداروينية الاجتماعية التي حوَّلت نظرية التطور البيولوجي إلى مبرر "علمي" للاستعمار والتمييز العنصري، حيث اعتُبرت شعوب بأكملها "أقل تطورًا" تستحق الإبادة. بل إن بعض النظريات، مثل دراسات الذكاء المزوَّرة في القرن العشرين، حوَّلت العنصرية إلى "حقيقة بيولوجية" عبر اختبارات مزيفة، ما أدى إلى تبرير سياسات فصل عنصري طويلة الأمد. ولم تتوقف المخاطر عند الأيديولوجيا، بل امتدت إلى التجارب اللاأخلاقية، كما في تجربة توسكيجي(1) التي خدعت مئات الرجال السود المصابين بالزهري وتركتهم دون علاج لعقود، فقط لدراسة تطور المرض! وفي العصر الحديث، تحوَّل العلم إلى أداة في يد النخب الاقتصادية، حيث تُوجَّه نتائج الأبحاث عبر التمويل المشبوه، مثل دراسات شركات التبغ التي أنكرت أضرار التدخين، أو أبحاث شركات التكنولوجيا التي تسهم في تفكيك الأسرة عبر تعزيز الإدمان الرقمي. هذه الأمثلة لا تدين علم الاجتماع، بل تُذكِّر بأن خطورته تتفاقم عندما يُختطف من قبل أصحاب النفوذ، أو عندما يتخلى الباحثون عن النزاهة الأخلاقية. فقدرة هذا العلم على تشريح المجتمعات تمنحه سلطة هائلة: إما أن يكون أداة للتحرر من خلال كشف آليات القمع، أو أداة للقمع من خلال تطبيع الظلم تحت غطاء "الحياد العلمي".
علم الإجتماع، نموذجًا
علم الاجتماع، أو "علم المجتمع" كما يُعرف أحيانًا، هو أحد الفروع الأساسية في العلوم الاجتماعية التي تسعى إلى فهم البنى الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والأنماط الثقافية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا ندرس علم الاجتماع؟ هل هو مجرد ترف فكري، أم أنه ضرورة لفك شفرات التعقيدات المجتمعية التي تحيط بنا؟ في هذا المقال، سنستعرض الأسباب الجوهرية لدراسة هذا العلم، بدءًا من التوثيق والمعرفة وصولًا إلى دوره في تعزيز القيم الأخلاقية واستعادة مفهوم الأسرة.
الخطر لا يكمن في علم الاجتماع نفسه، بل في كيفية استخدامه؛ فهو مرآة تعكس تناقضات المجتمعات، وحين تُشوَّه المرآة، تُشوَّه رؤيتنا لأنفسنا.
هذه المقالة لا تغطي كل جوانب علم الاجتماع، لكنها تسلط الضوء على محطات أساسية لفهم أهميته كجسر بين الفرد والمجتمع، وبين الماضي والمستقبل، كما أننا لا ننفي قيمة العلوم الاجتماعية، بل نؤكد أن النزاهة العلمية تتطلب وعيًا دائمًا بحدود المعرفة وانحيازاتها.
1. التوثيق والمعرفة: سجلٌّ لتطور المجتمعات
يُعتبر علم الاجتماع أداةً لتوثيق التحولات الاجتماعية عبر الزمن. فمن خلاله نستطيع تتبع تطور المؤسسات الاجتماعية (كالأسرة، التعليم، الدين) ودراسة تأثير العوامل الاقتصادية والسياسية عليها. على سبيل المثال، وثّق إميل دوركايم في كتابه "الانتحار" (1897) كيف تؤثر الظروف الاجتماعية مثل العزلة أو الاندماج في المجتمع على معدلات الانتحار. هذا التوثيق ليس مجرد تسجيل للأحداث، بل هو وسيلة لفهم القوانين الخفية التي تحكم السلوك البشري.
كما يقدم العلم رؤىً نقدية للتاريخ، مثل تحليل ماكس فيبر لدور البروتستانتية في نشأة الرأسمالية، مما يثري معرفتنا بالجذور الثقافية للأنظمة الاقتصادية.
2. التعرف على المصطلحات والنظريات: أدوات لفك التعقيد
لا يمكن فهم الظواهر الاجتماعية دون إتقان المصطلحات والنظريات التي تشكّل لغة هذا العلم. مصطلحات مثل "التنشئة الاجتماعية" أو "الطبقة الاجتماعية" ليست مجرد كلمات، بل هي مفاهيم تُستخدم لتحليل التفاعلات الإنسانية. على سبيل المثال، تساعد نظرية الصراع الطبقي لكارل ماركس في تفسير عدم المساواة الاقتصادية، بينما تقدم نظرية الفعل الاجتماعي لماكس فيبر(2) منظورًا حول كيفية صنع الأفراد لقراراتهم ضمن السياق المجتمعي.
هذه الأدوات النظرية تُمكّن الدارسين من تحليل القضايا المعاصرة، مثل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الهوية الفردية، باستخدام إطار منهجي واضح.
3. الأنثروبولوجيا والتوجهات المادية والتجريبية: جسر بين الثقافات
على الرغم من أن الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) تختلف عن علم الاجتماع في تركيزها على الثقافات المُقارنة، إلا أن المنهجيات التجريبية التي طورتها – مثل الملاحظة بالمشاركة التي استخدمها برونيسلاف مالينوفسكي في دراسة مجتمعات المحيط الهادئ – قد أثرت بعمق في علم الاجتماع. هذه المنهجيات تعزز فهمنا للتنوع البشري، وتكشف كيف تُشكّل العوامل المادية (كالمسكن والغذاء) القيم الثقافية.
فدراسة المجتمعات البدائية، مثل قبائل الإنويت(3) في القطب الشمالي، تُظهر كيف تتكيف البنى الاجتماعية مع البيئة، مما يساعدنا على فهم مرونة المؤسسات الإنسانية.
4. تأثير العلوم الاجتماعية في المجتمع: من النظرية إلى التطبيق
لا يقتصر دور علم الاجتماع على التحليل النظري، بل يمتد إلى تغيير الواقع. فالباحثون الاجتماعيون يقدمون توصيات لصناع السياسات حول قضايا مثل الفقر والهجرة. على سبيل المثال، ساهمت دراسات بيير بورديو حول "رأس المال الثقافي" في إصلاح الأنظمة التعليمية لتعزيز العدالة الاجتماعية.
كما يكشف العلم عن الآثار غير المقصودة للسياسات، مثل زيادة الفوارق الطبقية نتيجة خصخصة الخدمات العامة، مما يدعو إلى مراجعة النماذج التنموية.
التأصيلات المعرفية والأهداف الخفية: قراءة نقدية للمنظورات
يتطلب دراسة علم الاجتماع الغوص في الجذور الفلسفية للمنظّرين. فمثلاً، انطلق أوغست كونت (مؤسس العلم) من الوضعية، بينما تأثر كارل ماركس بالمادية الجدلية. فهم هذه الخلفيات يُظهر كيف تُشكّل الأيديولوجيات النظريات.
أما "الأهداف الخفية"، فقد كشفها مفكرون مثل ميشيل فوكو، الذي أشار إلى أن المعرفة تُستخدم كأداة للسلطة. فمثلاً، قد تُوظّف مصطلحات مثل "التخلف" أو "التقدم" لترويج هيمنة ثقافية على مجتمعات معينة.
في الوقت نفسه، يحذر العلم من التهديدات التي تواجه الأسرة، مثل العولمة الثقافية التي قد تُضعف الروابط التقليدية، مما يستدعي مبادرات للحفاظ على القيم الأصيلة دون الانغلاق على التغيير.
دراسة علم الاجتماع ليست تخصصًا أكاديميًا فحسب، بل هي عدسةٌ لفهم العالم من حولنا. إنها تمنحنا الأدوات لتحليل المشكلات الاجتماعية، وتقديم حلول مستنيرة، وحماية القيم الإنسانية في عصر التغيرات المتسارعة. كما أنها تذكرنا بأن المجتمعات، رغم تعقيداتها، قابلةٌ للتغيير نحو الأفضل عندما نفكك آليات عملها.
لا تُقدّم العلوم الاجتماعية معرفة "محايدة" في كثير من الأحيان، بل تحمل في طياتها أهدافًا خفية تتعلق بسياقاتها التاريخية والأيديولوجية، أو حتى بمصالح النخب التي تمول الأبحاث. هذه المقاصد قد تُستخدم لتبرير هيمنة ثقافية، أو تعزيز أنظمة سياسية، أو حتى إضفاء الشرعية على ممارسات استعمارية.
يمكن لعلم الاجتماع أن يكون أداةً للتحرير حين يكشف آليات الظلم، أو أداةً للقمع حين يُحوَّل إلى خطاب سلطوي. الفرق بين الوجهين يكمن في مدى التزام الباحثين بالنزاهة والنقد الذاتي.
(1) تجربة توسكيجي للزهري هي تجربة سريرية شائنة السمعة أقيمت بين عامي 1932 و 1972 عبر خدمة الصحة العامة الأميريكية لدراسة التطور الطبيعي لحالات الزُّهري غير المعالج في الرجال السود في ريف ولاية ألاباما. وقد أُخبروا أنهم كانوا يتلقون رعاية صحيّة مجانية من الحكومة الأميريكية.
(2) نظرية الفعل هي النظرية التي تناقش الفعل الاجتماعى وقدمها المنظران تالكوت بارسونز وماكس فيبر. تعتمد نظرية الفعل الاجتماعي على قضية أساسية فيما يتعلق بتفسير وتأويل السلوك الإنساني ألا وهي أن كل سلوك هو سلوك هادف، أي أن الفاعل الاجتماعي لبلوغ هدف أو غاية ما فإنه يختار عدة وسائل وأنماط سلوك متعارف عليها اجتماعيا للوصول إلى غاياته، حيث يتضمن الفعل اختيار الفاعل لعدد محدود من الوسائل التي تحقق هدفه دون وسائل أخرى.
(3) قبائل إنويت، بالإنكتيتوتية: ᐃᓄᐃᑦ أو الإسكيمو أو الإسقيمو هم شعب يسكن في شمال الكرة الأرضية. ويتوزعون على السواحل الشمالية من قارة أمريكا الشمالية في كل من ألاسكا وكندا وسواحل آسيا في شمال شرق سبيبريا وعلى جزيرة غرينلاد.