غدير عدنان نصر الدين - خاصّ الأفضل نيوز
لا تقف الظروف الخارجية وحدها وراء سلوك الإنسان، بل تتداخل معها أزمات نفسية لا تُفهم إلا بالتحليل العميق، تماماً كما حصل مع اللبنانيين في الحرب الأخيرة، التي لم تكن حرباً على البلاد فقط، إنما حرب كل إنسان يعيش داخلها.
بعد الثالث والعشرين من شهر أيلول العام الماضي، أصبح الخوف، القلق، والتوتر جزءًا لا يتجزأ من الروتين اليومي، مترافقًا مع صعوبات نفسية واجتماعية. فلا يمكن غض النظر عن أنَّ أثار هذه الحرب لم تقتصر فقط على الدمار والخراب بل كان لها ثقلها على الصعيد النفسي أيضاً.
الملفت في الأمر، أن هناك تفسير نفسي لكل سلوك يقوم به الأفراد بدءاً من استغلال التجار ورفع أسعار الإيجارات الذي حول الاستقرار إلى عبء لا يطاق، وصولاً إلى العلاقات العائلية التي مزقتها ضغوط النزوح تحت سقفٍ واحد. في هذا المشهد المرهق الذي لم يمر دون أثر، تتجلى أعمق الأزمات النفسية التي دفعت الجميع للتصرف على هذا النحو من السلوكيات المتناقضة. وفي ظل الأزمات والحروب، تنكشف طبيعة الإنسان في استجابته للتحديات الوجودية، حيث تتفاعل غريزتان أساسيتان لديه لتشكيل سلوكياته المتباينة، فكيف يحصل ذلك؟
صدمة الحرب بين الأثار النفسية وسلوكيات البشر
في سياق متصل، أوضحت المعالجة النفسية زينة زويل، في حديث لـ "الأفضل نيوز"، أن الحرب تُعد "صدمة" بحد ذاتها، ينتج عنها "اضطرابات ما بعد الصدمة"، المعروفة بالـ "PTSD"، شارحةً أن هذا الاضطراب يظهر من خلال سلوكيات محددة، مثل الذعر والخوف من زيارة أماكن كان الشخص يتواجد فيها خلال فترة الحرب أو النزوح ، كما يتجلى الاضطراب أحيانًا من خلال الهذيان السمعي، إذ قد يسمع الشخص أصواتًا غير موجودة، أو يشعر بالفزع من أصوات مفاجئة، مثل صوت طرق الباب.
وأشارت زويل إلى أنَّ هذه الأعراض تعكس رسالة داخلية يعبّر بها المصاب عن صعوبة استيعاب ما حدث ، وأضافت أن ردة فعل الإنسان على الحرب تختلف بين الشخص والآخر وذلك حسب استعداده النفسي، فهناك جزء من الأفراد قد يصابون بالاكتئاب أي فقدان الرغبة في الحياة، واليأس وعدم القدرة على ممارسة العادات اليومية...
غريزة الحياة وغريزة الموت: صراع البقاء بين الأمل واستغلال الأزمات
شرحت المعالجة النفسية زينة زويل أن طبيعة الإنسان تتمثل في امتلاكه لغريزتين أساسيتين: غريزة الموت وغريزة الحياة، وبما أن غريزة الموت موجودة، فإن غريزة الحياة تظهر كرد فعل تلقائي لتوفير الحماية تجاه الموت ، غريزة الحياة هي التعبير عن حب الإنسان للحياة، ولولاها لكانت البشرية قد انتهت منذ زمن بعيد. وقد لفتت إلى أنه دائمًا ما تبرز غريزة الحياة في مواجهة الموت، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال ما يحدث أثناء الحروب وما بعدها بالأخص، حيث تتزايد معدلات الولادة والزواج، ويرتفع الميل إلى الغناء والرقص وممارسة الفنون. كل هذه السلوكيات تُعد محفزات أساسية لطاقة الحياة، التي تُعرف علميًا باسم "Libido"، وتتحول هذه الطاقة إلى أعمال فنية أو إذا لم تتحول إلى أمور فنية تظهر من خلال التكاثر والزواج كرد فعل على غريزة الحياة.
أما فيما يتعلق بالتجار والأفراد الذين يمارسون الاستغلال، فسَّرت زويل أنهم يعتبرون هذه السلوكيات وسيلة حماية تجاه غريزة الموت، حيث يُنظر إلى غريزة الحياة كاستجابة تلقائية لذلك التهديد، شارِحةً أن هذا يتجلى في سلوكيات مثل جمع الأموال بشكل مفرط، رفع الأسعار، واحتكار المواد الأساسية كالخبز والطحين، كوسيلة لتخفيف الشعور بالخطر الخارجي. بالنسبة لهؤلاء، المال يمثل مصدرًا للأمان في وجه المخاطر المحيطة بهم.
وأضافت زويل أن غريزة الحياة تنشط بقوة خلال فترات الحروب كرد فعل على غريزة الموت، مما يدفع بعض الأفراد إلى اتخاذ سلوكيات استغلالية خوفًا من الموت.
الصراعات الأسرية: فتيل أشعلته ضغوط النزوح والحرب
أمَّا على الصعيد العائلي، فسَّرت زويل أنَّ الخلافات التي برزت بين أفراد العائلات الكبيرة التي نزحت تحت سقف واحد، هي مظهر واضح للضغوط النفسية الناتجة عن الظروف الخارجية التي يصعب على الأفراد التعبير عنها بطريقة سليمة. هذه الخلافات لا تعبر بالضرورة عن مشاكل شخصية بين أفراد الأسرة، بل هي انعكاس غير مباشر للتوتر النفسي الذي يواجهونه؛ فالحروب، حسب زويل هي أقسى أشكال الوحشية، تخلق دورة من العنف تبرز في مختلف جوانب الحياة، فالعدائية التي يواجهها الإنسان خلال الحرب -والتي قد تصل إلى الموت- يمكن أن تتحول إلى عدائية مشابهة داخل المنازل، مما يجعل الصراعات الخارجية تنعكس في الداخل بصورة مصغرة وكأنها محاكاة للواقع الخارجي، وتتجلى هذه التوترات في تبادل اللوم والأحكام بين أفراد الأسرة. وفي ظل هذه الظروف، قد يمتد اللوم إلى جهات خارجية كالدولة أو المحيطين بهم، بينما يتم تجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة، ورغم ذلك، يبقى هذا اللوم غير واعٍ، موجهاً بالدرجة الأولى نحو الأشخاص داخل المسكن المشترك.
الإرشادات النفسية للتعامل مع تبعات الحرب
في الختام، لم تنصح المعالجة النفسية زينة زويل أحدًا بالتكيّف مع صدمات الحرب النفسية، بل أوصت الأفراد بأن يُعايِشوا مشاعرهم، إذ تسهم هذه المشاعر في تنقية الداخل النفسي، مما يتيح لهم عيش مستقبل صحي وسليم؛ فالإحساس بالألم والحزن يُعَدُّ شعورًا إنسانيًا كغيره من المشاعر، مثل الفرح، ومن الضروري أن يفسح الأفراد المجال لمُعايشته، مع الحرص على ترك مساحة صغيرة تمنعهم من الانغماس التام في الاكتئاب، إلا في الحالات التي تكون خارج إرادتهم. كما دعت المواطنين إلى التعاطف مع أنفسهم، وليس مع الآخرين فقط، وإدراك أن مشاعر الذنب التي قد يختبرونها بسبب فقدان أشخاص مقربين أو تدمير ممتلكاتهم ليست مسؤوليتهم،
وشددت في النهاية على أهمية استشارة معالج نفسي عند الحاجة.
في المحصلة، من الواضح أن الحروب لا تترك بصمتها على البنية التحتية فقط، بل تنعكس آثارها العميقة على الأنفس والسلوكيات البشرية. أمام هذا الواقع، كيف يمكن للمجتمعات أن توازن بين مواجهة التحديات النفسية وإعادة بناء العلاقات الإنسانية المتصدعة؟