د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
منذ تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حتى هذه اللحظة، لم يعرف العالم أجمع لا الراحة ولا الهدوء، لا سيما بعد الحرب الجمركية التي أعلنها ضد الحلفاء والخصوم في آن واحد، وقلبت الأسواق رأسًا على عقب.
والأسوأ أنها تبشّر بمزيد من الاضطرابات والأزمات على امتداد الكرة الأرضية.
لكن ضع في اعتبارك، أن القصة لم تقف عند هذا الحدّ. فبعد أقل من ثلاثة أشهر من ولايته الثانية، بدأت تظهر "عقيدة ترامب" في السياسة الخارجية، والتي يمكن تلخيصها بهذه الكلمات الشهيرة لثوسيديدس بن مِلْتِيَاس (مؤرخ وفيلسوف يوناني قديم، كان معروفًا بموضوعيته وحياديته في سرد الأحداث التاريخية، وابتعد عن الأساطير والتفسيرات الدينية التي كانت سائدة في مؤلفات مؤرخين سابقين): "الأقوياء يفعلون ما بوسعهم والضعفاء يعانون ما يجب عليهم أن يعانونه".
ترامب والعودة إلى القرن التاسع عشر
على عكس معظم أسلافه في المكتب البيضاوي، لا يظهر ترامب أي اهتمام بتعزيز أو الدفاع عن الديمقراطية أو سيادة القانون أو التجارة الحرة. بل إنه يُركّز كل اهتمامه على سياسات القوة بأسلوب فجّ ومتبجّح يُمثّل عودةً مقلقة وخطيرة إلى القرن التاسع عشر.
في تلك الأيام، كانت حفنة من القوى العظمى - بقيادة بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا - تُقسّم العالم فيما بينها. إذ نظّم الأوروبيون ما عُرف بـ"الصراع على أفريقيا"، والذي أسفر عن استعمار مُفرط لمعظم القارة.
فيما حاولت اليابان مُواكبة هذا الزحف بضمّ كوريا. أما الولايات المتحدة، فقد انضمت إلى السباق الإمبراطوري بقيادة الرئيس المُفضّل لدى ترامب وملهمه الروحي، ويليام ماكينلي، بالاستيلاء على الفلبين وبورتوريكو وغوام وهاواي.
آنذاك كانت النظرية السائدة، هي أن السيطرة على الأراضي تُكسب الثروة، مع أن العديد من المؤرخين المعاصرين خلصوا إلى أن غزو العديد من المستعمرات والسيطرة عليها يُكلّف أموالًا أكثر مما تُدرّه.
من هنا، أصبح خطر تقسيم العالم إلى "مناطق نفوذ" غير محددة، واضحًا بشكل جليّ في عام 1914. بعدها أدت طموحات القوى الأوروبية المتضاربة إلى أسوأ حرب شهدها التاريخ حتى ذلك الحين.
ونتيجة لذلك، حاول الرئيس الأمريكي الأسبق وودرو ويلسون، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، إنشاء نظام دولي قائم على سيادة القانون، تُنفّذه عصبة الأمم، مع منح الدول الصغيرة، نظريًا على الأقل، حق "تقرير المصير".
صحيح أن هذا الجهد فشل في النهاية، ولكنه أُعيد إحياؤه بعد الحرب العالمية الثانية مع إنشاء الأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، والاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة، والجماعة الاقتصادية الأوروبية، وغيرها من الآليات والنظم المصممة لدمج التنافس القومي في نظام دولي ليبرالي جديد.
اللافت أن النظام العالمي الذي تم تأسيسه بعد عام 1945، نجح على الأقل في تجنيب البشرية الحرب العالمية الثالثة وتمهيد الطريق لأكبر توسع للديمقراطية (المفصلة على مقياس الدول المنتصرة في هذه الحرب) والازدهار في تاريخ العالم.
ومع ذلك، يبدو أن ترامب عازم الآن على عكس إنجازات الـ 80 عامًا الماضية.
ترامب وإحياء القدر المحتوم ومبدأ مونرو
عمليًا، يهدف الرئيس ترامب، برأي القادة والخبراء الأمريكيين وفي مقدمتهم، الرئيس السابق لمجلس النواب (الجمهوري) نيوت غينغريتش إلى "خلق بيئة نعود فيها إلى ما كنا عليه قبل الحرب العالمية الأولى.. ولذلك سأل خلال حديث مع صحيفة "واشنطن بوست" الأسبوع الماضي، "هل يُفترض أن يكون هذا أمرًا جيدًا؟"
وبينما يبدو أن ترامب غير مهتم بالتمسك بالقيم الأمريكية، إلا أنه يصب تركيزه، وبشدة، بالاستحواذ على المزيد من الأراضي والموارد الطبيعية.
ولهذا أعرب عن رغبته في ضم كندا وقناة بنما وغرينلاند وحتى قطاع غزة.
والأكثر إثارة أن ترامب أعاد إحياء الحديث عن "القدر المحتوم" و"مبدأ مونرو" ليُشير إلى أن العم سام يجب أن يهيمن على نصف الكرة الغربي. أما النتيجة المترتبة على ذلك، فهي أن يكون للقوى العظمى الأخرى مناطق نفوذها الخاصة.
بالمقابل، ما يقض مضاجع الساسة الأمريكيين المعارضين لترامب، هو أن هوسه بالاستحواذ على الأراضي والموارد الطبيعية — وإعادة التصنيع — يُعدان مفارقة غريبة، في وقت يجب أن تكون المنافسة الاقتصادية مبنية بشكل متزايد على التقدم في الروبوتات والطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة الأخرى.
وإذ يسلم هؤلاء الساسة، أن صناعة الإلكترونيات تحتاج إلى الوصول إلى المعادن النادرة، لكن برأيهم هناك طرق أسهل للحصول على هذه المعادن الثمينة بدلاً من نهب أوكرانيا أو سرقة غرينلاند. ليس هذا فحسب، فمن وجهة نظرهم، أنه في القرن الحادي والعشرين، يمنح الذكاء ثروة أكبر من السيطرة على الموارد الطبيعية. ويستشهدون بـ"النجاح الاقتصادي المدهش لدول فقيرة من الموارد مثل سنغافورة وإسرائيل وكوريا الجنوبية وإيرلندا".
وانطلاقًا من رؤيتهم هذه، فإن النموذج الأبرز يتمثل بالولايات المتحدة، وشركاتها الأكثر قيمة في العالم مثل: أبل ومايكروسوفت ونفيديا وأمازون وألفابيت، التي تولّد الثروات من الملكية الفكرية، وليس من السيطرة على المناجم أو المعادن.
في المحصّلة:
يلخّص أحد الكتّاب في صحيفة الواشنطن بوست ويدعى ماكس بوت ما يفعله ترامب بالقول: إن الثروة التي يدمرها ترامب بسياساته الضارة لن يتم تعويضها من خلال الاستحواذات على الأراضي في الخارج، أو الاتجاه لاكتساب المزيد من النفوذ والتخلي عن الأمن الجماعي، فهذه السياسات ستجعل العالم ببساطة مكانًا أكثر خطورة وفقرًا بكثير.