كمال ذبيان - خاص الأفضل نيوز
تنظر أميركا إلى لبنان، بأنَّه منطقة نفوذ لها، وتستخدمه ساحة لمشاريعها، منذ خمسينات القرن الماضي، عندما أدخلته في مشروع الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور لمحاربة الشُّيوعيّة، وانخرط رئيس الجمهوريَّة كميل شمعون فيه، وأدَّى ذلك إلى أزمة داخليَّة، أنتجت حربًا أهليَّة، دامت لنحو ثلاثة أشهر، وتوقَّفت بفعل اتفاق أميركيّ - مصريّ أوصل قائد الجيش اللِّواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهورية، وتعطيل التَّمديد للرئيس شمعون الذي كان يسعى له.
فالحضور السِّياسيُّ وأحيانًا العسكريُّ الأميركيُّ، دائم في لبنان، وكان موفد رئاسيٌّ أميركيٌّ مكلَّف بالملفِّ اللُّبنانيِّ، فتوالى على ذلك عدد من الشَّخصيات من أبرزهم: ريتشارد مورفي، أبريل غلاسبي، آموس هوكشتاين وأخيرًا مورغان أورتاغوس، وهؤلاء كانوا يأتون بمهمّات لخدمة مصالح بلدهم، كما لفرض تسويات، أو المشاركة في تسمية رئيس الجمهورية.
وكانت أميركا تتفرَّد بالقرار اللبنانيِّ، وتشاركها دولة أجنبية أو عربية، فتفاهمت مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر في نهاية الخمسينات، ثم مع السعودية في السبعينات، وتبع ذلك اتفاقها مع سوريا على دخول جيشها إلى لبنان، كما نسقت مع العدوِّ الإسرائيليِّ غزوه للبنان، ورعت مع السعودية اتفاق الطائف الذي كلَّفت سوريا بتنفيذه.
فلم تغب أميركا عن لبنان، الذي كانت تواجه فيه معارضين لها، فانكفأت عنه في الثَّمانينات لصالح إيران مع ظهور "حزب اللَّه" الذي تتَّهمه أميركا بأنَّه وراء تفجير السَّفارة الأميركية في بيروت إلى مقرَّي قوات "المارينز" والجنود الفرنسيين، فسقط مئات الضَّحايا والجرحى، فوقع الصِّراع الأميركي - الإيراني منذ نجاح "الثَّورة الإيرانية" بقيادة الإمام الخميني في العام ١٩٧٩.
من هنا، فإنَّ أميركا تخوض في لبنان، منذ مطلع الألفيَّة، حربًا ضدَّ إيران في لبنان، ومعها سوريا التي وضعتها واشنطن في مخطَّطها لإخراج قوَّاتها من لبنان، بعد غزوها للعراق عام ٢٠٠٣، فكان القرار ١٥٥٩ الصَّادر عن مجلس الأمن الدُّولي بطلب فرنسي - أميركي، لإخراج الجيش السوري من لبنان ونزع سلاح "حزبِ اللَّه"، فأدخل هذا القرار لبنان في حرب أهليَّة باردة، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فجرى استخدام مقتله لتفجير صراع سنِّيّ - شيعيٍّ، كان بدأ في العراق، والعنوان له، هو منع إقامة "هلال شيعي" من العراق مرورًا بسوريا وصولًا إلى العراق ترعاه إيران.
من هنا، فإنَّ الموفدين الأميركيين، لم يفارقوا لبنان منذ نحو ٧٠ عامًا، وآخرهم تكليف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أورتاغوس بملف لبنان، كمساعدة للموفد الرئاسي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، الذي طالب لبنان بتطبيع العلاقاتِ مع العدوِّ الإسرائيليِّ، وهذا ما حملته نائبته إلى لبنان.
فالموفدة الأميركية، ومنذ زيارتها الأولى للبنان، كشفت عن أهداف مهمَّتها وهي نزع سلاح "حزبِ اللَّه" وعدم التَّعدّي على الكيان الصُّهيونيّ من لبنان، فأعلنت عن انتمائها الصهيوني - اليهودي ليس بحملها لنجمة داوود، بل مشاريع العدوِّ الإسرائيليِّ بتوسعه واحتلاله من أجل الوصول إلى تحقيق حلم قيام "إسرائيل الكبرى" في مشروع الشرق الأوسط الجديد.
ولم تختلف الزِّيارة الثَّانية لأورتاغوس عن الأولى، سوى بتركيزها على الشِّقّ الإصلاحيِّ، بعد أن ذكرت المسؤولين اللّبنانيين، بأنَّ أمامهم مهلة لا تتعدّى الأشهر الثَّلاثة، ليكون الجيش اللُّبنانيّ أنجز مهمَّته في أن يكون لبنان خاليًا من السِّلاح وأوَّله سلاح "حزبِ اللَّه".
وبلغت الوقاحة بالموفدة الأميركية، بأنّها استدعت وزراء إلى السَّفارة الأميركيَّة في عوكر، متقمِّصة دور المندوب السامي في زمن الانتداب الفرنسي، والجهاز الأمني السوري، فذهب وزير الخارجية اللبنانيّ يوسف رجّي لمقابلة أورتاغوس في السَّفارة الأميركية، خلافًا للأصول الدبلوماسيّة، وهذا ما فعلته مع وزراء آخرين، فدعتهم إلى غداء في السَّفارة أيضًا، للتَّعارف، ولم توفّر وزير المال ياسين جابر، ووزير الاقتصاد عامر البساط وحاكم مصرف لبنان كريم سعيد، حيث أظهرت أميركا بأنَّ لبنان محميَّة لها، وهو تحت وصايتها لا بل تحت احتلالها السِّياسي، فهي التي سمّت رئيس الجمهوريَّة وبعده رئيس الحكومة، واختارت الوزراء، ووضعت "فيتو" على "حزبِ اللَّه"، وتدخلت باسم حاكم مصرف لبنان.
فلم يسبق أن مارست أميركا تدخُّلها بهذا الشَّكل السَّافر الذي لم يقم أيُّ "سياديٍّ" بانتقاده، أو أي وزير بطلب استدعائه.