رائد المصري- خاصّ الأفضل نيوز
عاد الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم، ومعه عادت نغمة ما يمكن تسميته بالقومية الاقتصادية فعلاً وممارسة، على لسان حاكم البيت الأبيض، لتنتهج نهجاً عدائياً مع كل الدول حول العالم، بعقيدة مختلفة تعتبر أن واشنطن هي الأقوى اقتصادياً في المعمورة، فلا يقلق إحياء ترامب السريع للسياسات التجارية الحمائية وتهكُّمه من تعددية الأسواق، فهو يعمل أيضاً على ضرب أسس النظام العالمي الذي أرسته الولايات المتّحدة منذ تسعينيات القرن العشرين، وفي المقابل يهتم العالم في هذه الحرب كالصين والاتّحاد الأوروبي، وسلاسل التوريد العالمية، ولكن مع توسّع مساحة التداعيات إلى خارج حدود هذه الكيانات، نجد أنّ الدول الأصغر المنكوبة بالأزمات، مثل لبنان ستكون الأكثر ضعفاً، وربما الأكثر تأثّراً بهذا النمط من الحروب، فلبنان ليس في خطّ النار المباشر، لكن في عالم اليوم الممزّق، يمكن أن يكون واقعه الإقتصادي والاستثماري محفوفاً بالمخاطر وعلى خطِّ الإستهداف.
الضعف الذي أصاب لبنان تركه عرضة لأكبر المخاطر، إذ لا تتعلق حرب ترامب التجارية بالرسوم الجمركية، بل بفكِّ الترابط الاقتصادي العالمي، والتأسيس لقواعد ارتباط جديدة مع دول لن تكون بالضرورة صديقة للبنان، خصوصاً أن الحالة الاقتصادية الجديدة عالمياً، ستعتمد على التعددية والحفاظ على الذات الاقتصادية بعيداً عن منطق وأسلوب التجارة المفتوحة بحرية، وهنا يسعى لبنان الذي دمّره الانهيار الاقتصادي والمالي، وأنهكه الدمار المرتبط بحرب إسرائيل على أرضه، والخلل المؤسّساتي، إلى مساعدة عاجلة من الحلفاء الخليجيين والشركاء الأوروبيين وصندوق النقد الدولي، ويبدو أن واشنطن لن تتشجع وتحشد دولياً لهذا الدعم، فالولايات المتحدة صارت بعيدة عن أية مسؤولية عالمية مباشرة، وتتَّجه سياساتها ذاتياً مقابل اكتساب صفقات عند كل عملية أو مساعدة ما.
فبالنسبة للبنان يبدو التأثير العالميّ للحرب التجارية واقعًا بالفعل، في أسواق النفط وتدفّقات الاستثمار، وستكون العواقب شديدة التأثير، على مستوى التضخم المستورد، كون لبنان يستورد كل شيء تقريباً من الخارج، بحيث تؤدي الاضطرابات في التجارة العالمية، وتقلّب العملة إلى رفع الأسعار وزيادة الفقر، لا سيما في غياب نظم دعم فعّالة، ومع أجندة ترامب المنغلقة على الداخل، تتقلّص ميزانيات المساعدات الغربية، أو يُعاد تخصيصها بناء على الولاء السياسي، بدلاً من الحاجات الإنسانية، كما أن حالة اللايقين التي يعيشها العالم، تؤدي إلى تبنّي المستثمرين العالميين عقليّة الابتعاد عن المخاطرة، ومعها سيتراجع لبنان، مع أزمته المصرفية التي لم تُحَلّ بسبب الضبابية في التعامل، وهنا يدخل لبنان هذا الواقع العالمي الجديد من موقع شديد الضعف، ومساحة التعافي تضيق أكثر فيه، والتطوّرات في المنطقة وفي العالم ليست في مصلحته، ومن دون إصلاحات داخليّة قويّة واستراتيجية خارجيّة ذكيّة، يخاطر لبنان بأن يصبح ضعيفاً ووحيداً جيوسياسياً، فيتجاهله المانحون ويهمله المستثمرون ويتركوه خارج خطط إعادة الإعمار.
وإذا استمرّ لبنان في الاعتماد على الوعود التقليدية لمؤتمرات المانحين والنوايا الحسنة، فسوف يصاب بخيبة أمل، بحيث يجب إعادة صياغة الانتعاش الاقتصادي بوصفه أولويّة استراتيجيّة للمنطقة، فليس الاستقرار في لبنان مصدر قلق محلّي، بل ضرورة إقليمية، حيث إنه ولفترة طويلة جدّاً، لعبت الطبقة السياسية في لبنان على وتر الحنين والنوستالجيا إلى الماضي، لا سيما مع فرنسا، والتحالفات الرمزية لجذب الاهتمام الدولي، لكنّ العالم قد تغيّر، ولم تَعدْ المساعدات تقدَّم لأولئك الذين يعانون ويتألّمون ويجوعون، بل تخصَّص لأولئك الذين يساعدون أنفسهم أوّلاً، فالرفض المستمر لمواجهة الخلل الوظيفي عبر الإصلاحات والوفاء بها، ومحاسبة الجهات الفاسدة، قد استنفد النوايا الحسنة وانتهت مخدوميته، حتّى لأقرب حلفائه، في عالم صار الاهتمام بالدول مياومًا وقصيرًا والأزمات كثيرة وكبيرة، لا يمكن لأيّ بلد أن يتوقّع من دون مصداقية تعاطفاً لا نهاية له.
ما نحتاج إليه الآن هو تحوُّل في السياسة، والشفافيّة واستقلال القضاء والمساءلة الماليّة ليست شروطاً أجنبيّة يفرضها الخارج، بل إنّها رغبة كلّ لبناني يتطلّع إلى مستقبل أفضل له ولأولاده، وفيها الحدّ الأدنى من مسؤوليّة الدولة، من خلال احتضانهم فقط يمكن للبنان أن يعيد تقديم نفسه شريكاً، يستحقّ الإنقاذ لا دولةً محطّمةً تطلب الإنقاذ، إذ يُعاد تشكيل المؤسّسات التي لجأنا إليها ذات يوم، كصندوق النقد الدولي والأمم المتّحدة والجهات المانحة الإقليمية، من خلال سياسات القوّة وإرهاق المانحين والإرهاق الاستراتيجي. لم يعد التضامن تلقائيّا، ولم تعد المساعدة غير مشروطة.
إنها مرحلة الخطر التي يجب على لبنان إعادة بناء اقتصاده المحطّم، وتقديم نفسه إلى العالم بشكل واثق ، وشريكاً مستعدًّا للتغيير، وهذا يتطلّب أكثر من الخطابات والمحاضرات الفارغة التافهة، ربما يتطلّب شجاعة سياسية ونزاهة مؤسّساتية، ومستوى من التنسيق، طالما فشل البلد منذ فترة طويلة في تحقيقه، واليوم تتشكل النواة الإقليمية الجديدة لحماية لبنان من خلال ما شكَّله الطموح السعودي مع التجاوب الإيراني، الذي انطلقَ، والذي يدعم موقف الرياض، أو موقف كلا الطرفين في مواجهة الطموحات والمخطّطات، التي يعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويمنح التعاون الإيراني الإيجابي الرياض ورقة قوّة، ويعزّز موقفها في تعطيل أيّ توجّه داخل الإدارة الأميركية يتجاوب مع رغبات تل أبيب الإقليمية.
فزيارة وزير الدفاع السعوديّ الأمير خالد بن سلمان لطهران، ولقاؤه المرشد الأعلى للنظام السيّد علي خامنئي، والرسالة التي حملها من الملك سلمان بن عبدالعزيز، تشكّل نقلة نوعيّة في العلاقة بين البلدين، خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة التي تمرّ بها المنطقة، مع ما تشهده العلاقة بين إيران والولايات المتّحدة الأميركية، والمفاوضات غير المباشرة الحاصلة بينهما، وإمكان التوصّل إلى اتّفاق جديد يُنهي حالة التوتّر، ويمهّد الطريق أمام حلّ لأزمة البرنامج النووي، إذ تظهر الإيجابيّة التي تنظر بها طهران وقيادتها لزيارة المسؤول السعودي، وما يمثّله في هرم السلطة والقرار، إلى جانب وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، من إمكان الدور الذي قد تضطلع به المملكة العربية السعودية في مستقبل المنطقة من ناحية، وعلى خطّ العلاقة بين طهران وواشنطن من ناحية أخرى، فليس مستبعداً أن تلجأ طهران إلى التجاوب مع هذه الرغبة السعودية، انسجاماً مع المسار الذي بدأ في العاشر من آذار 2023 وتوقيع الاتّفاق بينهما برعاية صينية، والذي نقل الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية من المواجهة إلى التعاون والانفتاح والتكامل مع محيطها العربي والإقليمي.
لقد حمل الأمير خالد بن سلمان في زيارته رسائل أمل لإيران، لا تقبل لغة تهديد نتنياهو، والتي يهوّل بها الرئيس الأميركي نفسه، لكسب المفاوضات من الضربة الأولى، وكما أنها لم تنخرط وهي غير معنيّة بتقديم أيّ غطاء أو بيئة حاضنة، لخطاب عسكري يهدّد إيران والمنطقة برمّتها ويقوّض استقرارها.
فالسعودية لا تعوّل على أيّ تغيّر في موازين القوى ولا تعمل على اختلالها ضد إيران، وقد أبلغت الرياض طهران بذلك، في فحوى الزيارة قبل جلسة، روما وقبل انتظار ما ستسفر عنه حلقات التفاوض، وبذلك استطاعت إيران خوض مفاوضات، مرتاحة إلى خلوّ المنطقة من بيئة خلفيّة معادية أو متوتّرة، حيث تمثّل الزيارة المنطق الذي يقود العقل الاستراتيجي السعودي، وبما تمتلكه المملكة من مكانة وموقع في المنطقة والعالم، روحيّة عربية وإجماعاً يصب بهذا الاتّجاه.
إنّ ما توفّره السعودية اليوم، من إيجابية في موقف المنطقة، يقوّي أوراق طهران، ويدفعها نحو المرونة والرشاقة في تقديم التنازلات لإنتاج تسوية مفيدة لها وللمنطقة برمّتها، قد تكون الحاجة الإيرانية في هذه المرحلة أكثر إلحاحاً لتعميق هذه الاستراتيجية والتخلّي عن سياساتها الماضية، واستغلال فرصة التفاوض لتعزيز الثقة بنواياها ورغبتها في الانتقال إلى سياسة التعاون، وهو مسار يختلف عمّا كان في السابق، لذا يجب اغتنام الحالة الإقليمية المرافقة للمفاوضات الجارية مع الولايات المتحدة، وحالة التأييد والترحيب التي تحظى بها، والتي تشكّل تحوّلاً جذرياً في المواقف الإقليمية وخاصة العربية، التي كانت سلبية من اتّفاق عام 2015، الذي لم يأخذ بمخاوف وهواجس الدول الخليجية من الطموحات الإقليمية الإيرانية، والتهديد الذي كانت تشكّله، والتدخّل الذي كانت تمارسه في الشؤون الداخلية للدول الإقليمية، وهذا بدوره قادر على أن يحمي لبنان بولادته الجديدة بعيداً عن حمائية ترامب وحربه التجارية التي لم تتوضح ولم يوضع لها بعد أي أساس أو ضيغة اتفاق بين دول العالم..