إلياس المر - خاصّ الأفضل نيوز
في عالم تزداد فيه الانقسامات الدولية حدة، تفرض التوازنات الكبرى إيقاعها على الدول الصغيرة التي غالبًا ما تجد نفسها معلقة بين خيارات لا تملك ترف حسمها.
لبنان، الغارق في انهيار مالي ونقدي واجتماعي منذ عام 2019، هو نموذج صارخ لهذه المعادلة القاسية. فعلى طاولة العروض والمساعدات، وُضعت أمامه فرص إنقاذ شرقية ملموسة من دول مثل العراق وإيران، وأخرى استثمارية استراتيجية من الصين وروسيا، لكنّه فضّل البقاء في دائرة الوعود الغربية غير المنفّذة. هذه الخيارات لم تكن اقتصادية بحتة، بل خضعت لحسابات سياسية أوسع ترتبط بموقع لبنان في لعبة النفوذ بين واشنطن ومحور الشرق، وهي حسابات دفع اللبنانيون ثمنها من معيشتهم وكرامتهم.
منذ بداية الأزمة، تقدّمت بغداد بعرض ثمين يقضي بتزويد لبنان بمليون طن من الفيول الثقيل سنويًا، يمكن استبداله بأنواع صالحة لتشغيل المعامل الكهربائية، بقيمة تُقدّر بين 350 و500 مليون دولار سنويًا بأسعار تفضيلية. العرض استمر لثلاث سنوات، وكان يمكن أن يؤمّن نحو 40% من حاجة لبنان الكهربائية، ويخفف فاتورة الاستيراد ويوفّر الكهرباء بمعدل ثابت. لكن التعاطي الرسمي كان بطيئًا ومشوّشًا، إلى أن تراجعت الكميات وتوقفت الآلية. النتيجة كانت خسائر مباشرة للبنان تصل إلى مليار ونصف دولار، وأخرى غير مباشرة تفوق خمسة مليارات، نتيجة استمرار العجز الكهربائي، وانهيار مؤسسات الإنتاج، وتوسّع السوق السوداء للطاقة.
العرض الإيراني لم يكن أقل أهمية. طهران أعلنت استعدادها لتقديم مازوت مجاني أو بأسعار رمزية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حين اقترحت إنشاء معامل كهرباء بطاقة ألف ميغاواط بصيغة BOT، أي من دون تحميل الخزينة اللبنانية أي كلفة مباشرة. العرض كان مفصّلًا، ويأخذ بالاعتبار طبيعة البنية التحتية اللبنانية، لكنّ الرفض أتى سريعًا، بذريعة العقوبات الأميركية أولًا، ثم بفعل ضغوط داخلية وخارجية تمنع التعامل مع إيران كمصدر دعم اقتصادي. رغم ذلك، وصلت شحنات مازوت إيرانية بمبادرة من حزب الله، ما أظهر أن الحظر لم يكن تقنيًا بل سياسيًا، وأن ما رُفض على الدولة قبله المجتمع بشكل اضطراري.
إلى جانب العراق وإيران، دخلت الصين على الخط بعروض لتنفيذ مشاريع نقل عام، سكك حديد، مرافئ ومصانع، إضافة إلى مشاريع طاقة شمسية. روسيا من جهتها قدّمت مبادرات في مجال الكهرباء والسدود وتطوير المرافئ. هذه العروض، رغم وضوحها وتوقيتها المناسب، قوبلت بفتور رسمي وقلق سياسي من “الغضب الأميركي”. بمعنى أدق، لم تُدرس جديًا، لأن ميزان العلاقات الدولية لم يكن يسمح بذلك. الموقف الغربي كان واضحًا: لا انفتاح على الشرق، ولا مساعدات غربية في حال الانحراف عن السياسات التقليدية.
وبينما كانت هذه العروض تُرفض أو تُهمّش، ظلّت الوعود الغربية تراوح مكانها. مؤتمر سيدر الذي انعقد في باريس عام 2018، تعهّد بـ11 مليار دولار، لكن لم يُصرف منه أكثر من 0.2 مليار، وربط كل شيء بتنفيذ إصلاحات عجز النظام اللبناني عن تحقيقها. قرض صندوق النقد بقيمة 3 مليارات دولار بقي منذ عام 2022 في خانة “الاتفاق الأولي”، وتعطّلت كل محاولة للاستفادة منه بسبب الخلافات السياسية على خطة التعافي وتقاسم الخسائر. أما استجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن، وهو المشروع الذي روّج له الإعلام الغربي والعربي كحلّ عاجل، فتوقف في مكانه بسبب “قانون قيصر”، أي العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا والتي تمنع عبور الطاقة عبر أراضيها.
تجربة سياسة التوازن الأميركية
ما يجري في لبنان ليس مجرد تعثّر اقتصادي بل انعكاس مباشر لسياسة خارجية أميركية تُعرف باسم “سياسة التوازن”. هذه السياسة، القائمة على إدارة الصراعات بدلًا من حلّها، تتيح لواشنطن الاستفادة من تناقضات القوى الإقليمية من دون التورط المباشر. فكما دعمت واشنطن السعودية أمنيًا بينما كانت تفاوض إيران نوويًا، وكما سلّحت الأكراد في سوريا دون أن تقطع العلاقة مع تركيا، وكما دعمت تايوان في وجه الصين من دون أن توقف أكبر علاقة تجارية مع بكين، كذلك تتعامل مع لبنان وفق مبدأ مزدوج: تدعمه بما يكفي لئلا ينهار، لكنها لا تمنحه ما يكفي لينتعش. ترفض أن يخرج من دائرتها، لكنها لا تساعده على النهوض. وفي هذا الهامش الضيق، تُشلّ قرارات الدولة، ويُمنع أي انفتاح جدي على محاور أخرى.
يجد لبنان نفسه اليوم بين فكَّي كماشة؛ فمن جهة، هناك شرق يعرض شراكات ومساعدات دون شروط إصلاحية صارمة، لكن الاقتراب منه يعرض البلاد للغضب الأميركي. ومن جهة أخرى، هناك غرب يطلب التزامات سياسية وإصلاحية تكاد تكون مستحيلة في النظام اللبناني القائم، مقابل مساعدات رمزية أو مؤجلة. وهكذا، تبقى الأزمة قائمة، والمواطن رهينة، والدولة عاجزة.
لُبُّ المشكلة أن لبنان لم يُمنح حرية اختيار استراتيجي مستقل، لا في الاقتصاد ولا في التموضع السياسي. فالولايات المتحدة التي تمارس توازنًا مرنًا في علاقتها مع القوى الكبرى، لا تقبل أن يمارس لبنان التوازن نفسه في خياراته. وكأن المطلوب من بلد صغير مفلس أن يتقن دبلوماسية لا يملك أدواتها، وأن يرفض عروضًا إنقاذية باسم احترام تحالفات لا تمنحه سوى الوعود.
الخلاصة المؤلمة أن لبنان خسر من جراء رفض العروض الشرقية ما لا يقل عن 7 مليارات دولار خلال ثلاث سنوات، بينما لم يحصل من الغرب على أكثر من الدعم الغذائي والدوائي وبعض المساعدات الأمنية المحدودة. وكل ذلك يُترجم يوميًا في كهرباء مقطوعة، عملة منهارة، شباب مهاجر، وشعب يرزح تحت أسوأ أزمة معيشية في تاريخه الحديث.
ربما آن الأوان لمقاربة أكثر شجاعة ومرونة. لا يعني ذلك الانحياز إلى محور، بل الانفتاح الذكي على كل ما يعيد الحياة إلى الاقتصاد والمؤسسات، دون الارتهان السياسي لهذا الطرف أو ذاك. فالسيادة الحقيقية تبدأ من القدرة على اتخاذ القرار الاقتصادي الحر، لا من رفع الشعارات فقط. وإذا كانت الدول الكبرى تعتمد سياسة توازن تحفظ بها مصالحها، فمن باب أولى أن يُمنح لبنان الحق ذاته في السعي وراء مصلحته، قبل أن يُستنزف نهائيًا في لعبة لا مكان فيها للضعفاء.