محمد علّوش - خاصّ الأفضل نيوز
أعلن المبعوث الأميركي إلى سوريا، توم باراك، أن الولايات المتحدة بدأت تقليص وجودها العسكري في سوريا، في خطوة تشير إلى تغيّرات استراتيجية في المقاربة الأميركية للملف السوري. فمع عزم واشنطن على إغلاق معظم قواعدها العسكرية في سوريا، باستثناء واحدة، تعود إلى الواجهة التساؤلات حول بداية هذا الوجود، أهدافه، أبعاده الاقتصادية، وما يحمله الانسحاب الجزئي من دلالات مستقبلية.
بدأ التدخل العسكري الأميركي المباشر في سوريا عام 2014 في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" وهكذا استفادت أميركا كعادتها من الظروف التي تصنعها هي لكي تبرر سيطرتها على سوريا ومقدراتها، فانتشرت قوات برّية خاصة في مناطق محددة من الشمال والشرق السوري، بالتنسيق مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي تتكون بشكل أساسي من وحدات حماية الشعب الكردية.
لكن ما بدأ كعملية عسكرية مؤقتة لمحاربة الإرهاب، تحوّل إلى وجود طويل الأمد هدفه أيضًا تحجيم نفوذ إيران، والضغط على النظام السوري، ومنع روسيا من احتكار القرار العسكري والسياسي في البلاد، ومن المواقع التي انتشرت بها قوات أميركية في شمال وشرق سوريا، حيث النفط، ومن أبرز القواعد قاعدة العمر التي تقع في حقل العمر النفطي في ريف دير الزور الشرقي، وتعد من أهم القواعد الأميركية نظرًا لموقعها الاستراتيجي وأهميتها الاقتصادية، قاعدة الشدادي التي تقع في ريف الحسكة الجنوبي، وهي مركز عمليات وتدريب للقوات المحلية، قاعدة تل بيدر الموجودة في شمال الحسكة، وتستخدم كمقر تنسيق عمليات، قاعدة الرميلان بالقرب من الحقول النفطية، وتوفر الولايات المتحدة الحماية الأمنية لها، وقاعدة التنف وتقع على مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية، وتُعتبر نقطة مراقبة إستراتيجية، ويبدو أنها القاعدة التي لن تُغلق بحسب تصريح باراك.
منذ عام 2017، ومع دحر "داعش" من دير الزور والرقة، سيطرت "قسد" بدعم أميركي على معظم حقول النفط والغاز في شرق سوريا، أبرزها حقل العمر وحقل كونيكو، واستخدمت الولايات المتحدة هذه السيطرة كورقة ضغط اقتصادي وسياسي، فمن جهة حرمت الحكومة السورية من مصدر دخل رئيسي، ومن جهة أخرى دعمت بها حلفاءها المحليين.
ورغم أن واشنطن لم تعلن رسميًا أنها "تستولي" على النفط، إلا أن تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2019، حين قال: "نحن نحتفظ بالنفط"، عكست بوضوح الرؤية الأميركية لثروات شرق سوريا باعتبارها ورقة تفاوض وابتزاز.
تقليص الحضور العسكري الأميركي اليوم لا يعني بالضرورة انسحابًا كاملاً أو تخليًا عن النفوذ، بل يعكس تبدّلاً في الأولويات الاستراتيجية، فالتركيز على التنف يشير إلى أن واشنطن ما زالت متمسكة بمنع إنشاء ممر بري بين إيران وسوريا عبر العراق، ويهدف أيضاً الى خفض الاحتكاك مع إيران وروسيا في ظل التوتر الإقليمي، خصوصًا بعد الحرب في غزة وتطورات العراق ولبنان، وإلى تحويل المسؤولية إلى الحلفاء المحليين، وتحديداً "قسد".
الوجود العسكري الأميركي في سوريا لم ينتهِ بعد، لكنه دخل مرحلة جديدة. فالمقاربة العسكرية المباشرة لم تعد أولوية، بل هناك ميل نحو إدارة النفوذ بأدوات أقل كلفة، وأكثر مرونة، أما "قسد"، التي تعتمد بشكل كبير على الدعم الأميركي، فتجد نفسها أمام تحديات وجودية، في ظل تنامي احتمالات الهجمات التركية، واحتمال التفاهم بين دمشق وأنقرة على حسابها.
يشكّل إعلان توم باراك خطوة مفصلية في مسار الوجود الأميركي في سوريا، لكنه لا يعني نهاية النفوذ الأميركي، بل إعادة تموضع. ومع احتفاظ واشنطن بقاعدة التنف، تبقى سوريا ساحة صراع جيواستراتيجي مفتوح، حيث تتقاطع الحسابات الأميركية مع الروسية والإيرانية والتركية والخليجية، وتبقى الملفات الإنسانية، والسياسية، والاقتصادية رهينة هذه اللعبة المعقّدة.