محمد علوش - خاصّ الأفضل نيوز
حين خرج الموفد الأميركي توم باراك ليطالب لبنان بالانتقال من "الأقوال إلى الأفعال"، كان خطابه أشبه بمحاضرة في الواقعية السياسية، غير أنّ السؤال الجوهري هنا هل يحق للولايات المتحدة أن تعظ الآخرين بالعمل، بينما هي نفسها لم تلتزم يوماً بتحويل وعودها إلى أفعال؟
أزمة الثقة مع واشنطن
بحسب مصادر سياسية مطلعة فإن لبنان ليس أول دولة في المنطقة تواجه هذه المعضلة، تاريخ طويل من التعهدات الأميركية التي بقيت حبيسة الورق أو المنابر الإعلامية، وأبرز الأمثلة الحديثة التي تعني لبنان بشكل مباشر هو الاتفاق الذي رعته واشنطن في شهر تشرين الثاني من العام 2024 لوقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية.
وبحسب المصادر، يومها قدّمت الإدارة الأميركية وعوداً واضحة بإلزام إسرائيل بتطبيق القرار الأممي المتعلق بوقف الخروقات وانسحابها من الأراضي اللبنانية المتنازع عليها. لكن، وكما في معظم الملفات التي تتعلق بإسرائيل، بقيت تلك التعهدات حبراً على ورق، بينما التزم لبنان ببنود الاتفاق وتحرك ضمن الإطار الذي حددته واشنطن، لكن النتيجة كانت احتلال إسرائيل واستمرار الخروقات الإسرائيلية اليومية، وغياب أي ضغط فعلي أميركي لإيقافها، ما أظهر بوضوح أنّ واشنطن، كما عادتها، تميل إلى حماية إسرائيل منها إلى ضمان حقوق لبنان، رغم ما يقوله "أصدقاء" واشنطن في بيروت.
تسأل المصادر "لماذا يُطلَب من لبنان تصديق الوعود الأميركية اليوم، وباراك نفسه يتحدث عن غياب الضمانات، وفي حال كانت الضمانات مجرد أقوال فمن يضمنها، وهل على لبنان أن يكرر التجربة نفسها وهم لم يلتزموا باتفاق عمره أشهر فقط، وهل يُفترض بنا أن نصدّق الوعود الأميركية الجديدة، وهي التي فشلت في إلزام إسرائيل بأي شيء، لا في لبنان ولا في ملفات أكثر تعقيداً مثل القضية الفلسطينية أو الملف النووي الإيراني؟".
ترى المصادر عبر "الأفضل" أن الواقع يقول إن السياسة الأميركية، خصوصاً في الشرق الأوسط، أثبتت أنها تعتمد لغة مزدوجة، كلام دبلوماسي يحمل عناوين "السلام والاستقرار"، وأفعال ميدانية تنحاز بالكامل لحلفائها الاستراتيجيين، وعلى رأسهم إسرائيل، لذلك، فإن مطالبة لبنان اليوم بالانتقال إلى "الأفعال" تبدو وكأنها محاولة لنقل العبء والمسؤولية بالكامل إلى الداخل اللبناني، بينما يكتفي الأميركيون بإصدار بيانات وتصريحات من دون أي التزام فعلي أو ضمانات حقيقية، علماً أن غياب الضمانات هو أصل المشكلة، إذ لا آلية ملزمة لإسرائيل بتنفيذ الاتفاقات، ولا طرف دولي يمتلك الإرادة والقدرة على محاسبتها، ولا استعداد أميركي لممارسة الضغط اللازم، خوفاً من الاصطدام باللوبي الإسرائيلي أو خسارة الحليف الأبرز في المنطقة.
في ظل هذه المعادلة، يصبح من السذاجة السياسية أن يراهن لبنان على وعود جديدة من دون أن يضمن مسبقاً التزامات مكتوبة وآليات واضحة للتنفيذ، وإلا فإن أي اتفاق جديد لن يكون إلا نسخة مكررة عن تجارب سابقة فاشلة.
واقعية أم استسلام؟
تختم المصادر أنّ ما يطلبه الأميركيون اليوم من لبنان، تحت شعار "الانتقال من القول إلى الفعل"، يبدو أقرب إلى إلقاء المسؤولية على الطرف الأضعف في المعادلة، مع إعفاء إسرائيل من أي التزامات فعلية، فلبنان وإن كان مطالباً بالواقعية، إلا أن هذه الواقعية لا تعني الاستسلام لتجربة وعود لم تُنفّذ سابقاً، بل على العكس، المطلوب أن تكون أي خطوة لبنانية مشروطة بضمانات مكتوبة وملزمة، لأنّ التجربة أثبتت أنّ السياسة الأميركية قد تجيد الخطابة، لكنّها كثيراً ما تفشل في ترجمتها إلى أفعال حقيقية.