عماد مرمل - خاصّ الأفضل نيوز
باغتنا العبقري زياد الرحباني برحيله الصاعق والصادم على حين غرٍة.
كنا نظن أن غيابه الطويل عن الأضواء هو من عوارض عزلة طوعية كان يلجأ إليها من حين إلى آخر، قبل أن نكتشف بعد فوات الأوان أنه كان هذه المرة يخوض بصمت معركة غير متكافئة مع مرض صعب، انتهت إلى خاتمة درامية هزت وجدان كل من أحبه وعرفه.
لا مبالغة في القول إن زياد الرحباني هو من المبدعين الذين لا يعوضون ولا ورثة لهم. توجد منه نسخة واحدة حصرا وهي نسخة مشفّرة غير قابلة للاستنساخ أو التقليد.
تسنى لي أن أتعرف إلى زياد عن قرب، من المسافة صفر، بحكم مقابلتين تلفزيونيتين أجربتهما معه عبر قناة المنار عامي 2015 و 2018، وسبقتهما سهرات "غنية" جمعتني به في إطار التحضير لهما وسمحت لي بأن اكتشف بعضا من عوالمه.
خلال تلك الجلسات المنزلية، كان زياد يتصرف على سجيته وطبيعته من دون أي تكلف وبعيدا من حسابات البرستيج.
لم تفسده يوما شهرته التي تفيض عن لبنان وحتى العالم العربي بل بقي متصالحا مع نفسه إلى أقصى الحدود وكارها للمظاهر التي يدمنها منتحلو الصفة.
هو سهل ممتنع، استطاع أن يوفق بين عبقريته وبساطته، بين نجاحاته وتواضعه، بين أماله وآلامه، ببن هيبته وزهده.
عندما تم تحديد موعد اللقاء الأول مع زياد في منزلنا على مائدة عشاء، كنت أتهيب الموقف باعتبار أن الضيف الاستثنائي "مدجج" بهالة كبيرة كانت تسبقه إلى أي مكان يقصده. لكن، ما إن جلس على مقعده وبدأنا نتبادل أطراف الحديث حتى ذابت المسافة و"الرسميات" ليتبدى أمامك زباد التلقائي، الشفاف، الصادق، الصريح، الانسيابي، بلا أي أقنعة أو قفازات كتلك التي يرتديها من هم أقل شأنًا وقيمة منه بكثير.
سألناه مسبقا عن نوع الطعام الذي يفضله، فإذا به يكتفي باقتراح "أكلات" بسيطة خالية من الدسم: ورق عنب بزيت وسلق بزيت في المرة الأولى، وألبان وأجبان في السهرة الثانية.
وحين تطور النقاش بعدما سرت الكيمياء بيننا، أبدينا له استغرابنا من كونه لا يملك ثروة أو حتى منزلا رغم تميزه الفني الذي يرقى إلى مستوى الإبداع، فأكد أنه ليس لديه هذا الهاجس ولا يهتم بتجميع المال، وأن الأولوية بالنسبة إليه تأمين حقوق أعضاء الفرقة الموسيقية التي تشاركه الحفلات. وكشف أنه رفض أحيانا عروضا مُغرية قُدمت إليه من خارج لبنان، لأنها كانت على نقيض قناعاته ومبادئه وهو غير مستعد لقبول أي تنازلات جوهرية من أجل مبلغ مالي مهما كان حجمه.
ثم إن زياد كل لا يتجزأ. تقبله كله أو ترفضه كله. أما التعامل معه بـ"المفرق" وعلى القطعة، فليس سوى انتقائية تختزل طاقاته ومواهبه بشكل لا يفيه كل حقه.