محمد علوش - خاصّ الأفضل نيوز
منذ ولادتها ككيان غير شرعي، بنت إسرائيل جزءاً كبيراً من مشروعها على فكرة التفوق العسكري، وضربات المباغتة، وخلق صورة الدولة التي تُبادر ولا تنتظر، تردع ولا تُردع، تهاجم ولا تُهاجَم. عقيدة عسكرية رسّختها عبر حروب وعمليات نوعية، استطاعت فيها فرض معادلات مؤقتة من الردع، خاصة مع دول الجوار والمحيط العربي. لكن اليوم، يتكرر المشهد بزاوية مقلوبة، تعطشها المبالغ فيه للحرب، وتسرّعها في الذهاب إلى المواجهة مع إيران، بدأ يُسقط هذه الإنجازات شيئاً فشيئاً.
الحرب الأخيرة، أو ما يُسمى بـ"المواجهة الإيرانية المفتوحة"، لم تبدأ وفق حسابات مدروسة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، بقدر ما بدأت تحت ضغط سياسي داخلي، وتردد أميركي، وسياق إقليمي بالغ التعقيد.
بحسب مصادر سياسية بارزة، فإن حكومة نتنياهو تعيش اليوم أزمة داخلية، ضعف سياسي، انقسامات مجتمعية غير مسبوقة، وخوف متراكم من تعاظم قوة إيران في المنطقة وقلق على مستقبل الكيان، بشقّ منه قد يكون دينياً. أمام هذا الواقع، جاء التصعيد العسكري كخيار استباقي، أو محاولة للهروب إلى الأمام.
"لكن التسرّع، في عالم الحروب، له ثمن"، تقول المصادر، مشيرة إلى أن إسرائيل دخلت المواجهة برغبة جامحة في تحقيق انتصار سريع، أو إحداث صدمة سياسية تُعيد خلط الأوراق الإقليمية عبر إسقاط النظام الإيراني. فكان الهدف توجيه ضربة تُربك إيران، تُسقط نظامها، تقطع الطريق على تقدمها النووي، وتعيد طهران إلى طاولة تفاوض بشروط غربية صارمة وقيادة سياسية جديدة. إلا أن الميدان أتى بنتائج معاكسة تماماً.
الواقع، أن إسرائيل استعجلت الذهاب إلى حرب معقدة دون تأمين غطاء سياسي دولي واضح، ولا حساب دقيق للرد الإيراني المحتمل، ولا حتى ترتيب جبهة داخلية صامدة أمام تداعيات التصعيد. وهو ما جعلها سريعاً تتحول من الطرف المُهاجم إلى الطرف المُستهدف، تتلقى ضربات مؤلمة للغاية لم تشهدها منذ نشأتها، مع انكشاف واضح لنقاط ضعف كانت تُخفيها خلف أسطورة الأمن الداخلي والتفوق الاستخباراتي والنظام الصاروخي الدفاعي.
الإنجازات التي كانت تتباهى بها تل أبيب، من دقة عملياتها العسكرية، إلى قدرتها على تحجيم نفوذ إيران، إلى ضرب حزب الله وحماس، والسيطرة على سوريا وأرضها، كلها بدأت تتآكل تحت وطأة التسرّع وحسابات الحرب الأخيرة.
الأوساط السياسية الغربية، من واشنطن إلى باريس وبرلين، بدأت تُرسل رسائل لجم غير معلنة لتل أبيب، تُحذر من الإفراط في الرهان على الحرب المفتوحة، بانتظار لحظة سياسية أكثر نضجاً لإعادة ترتيب الأوراق، علماً أن تل أبيب نفسها أرسلت الرسائل لطلب وقف الحرب بعد أن وجدت أن الإدارة الأميركية أعطتها ضربة كبيرة للمنشآت النووية ولن تعطيها اليوم حرباً واسعة.
أما في الداخل الإسرائيلي، فالصورة أكثر ارتباكاً. المجتمع يعيش حالة خوف متصاعد، الجبهة الداخلية مهزوزة، ثقة الشارع بالقيادة السياسية تتآكل، هروب جماعي للمستوطنين عبر البحر والبر، وربما عبر الجو في المرحلة المقبلة، وتقدير الموقف في أروقة الأمن بات أكثر تشاؤماً حيال القدرة على إدارة صراع طويل الأمد مع إيران، لذلك كان الخيار نحو التوقف، ولو بصورة مؤقتة.
هكذا، تحولت شهية الحرب الإسرائيلية من ورقة قوة إلى نقطة ضعف، فالعدو الذي خاض لمدة عامين حروباً متعددة لم يتمكن من عكس إنجازاته العسكرية على المعادلات السياسية بعد، فاليوم معادلة الانتصار السريع سقطت، والعين على مسار التفاوض بحال صمدت الهدنة، ولمن ستكون الغلبة!