إلياس المرّ - خاصّ الأفضل نيوز
فيما كان رماد الحرب لم يبرد بعد في غزة، خرج دونالد ترامب مطلع تشرين الأول الحالي بخطته التي وُصفت بأنها “اتفاق اللحظة الحاسمة”، محاولة أميركية لإيقاف النار وإعادة واشنطن إلى قلب المشهد الشرق أوسطي.
لكن خلف لغة التسويات وبنود التهدئة، تقف تساؤلات أعمق: هل ما يُرسم لغزة اليوم هو مقدّمة لرسمٍ جديد لحدود المنطقة كلّها؟ وهل لبنان، بموقعه الدقيق على خط النار والهدنة معاً، سيبقى بمنأى عن ارتدادات هذه الصفقة الجديدة؟
خطة ترامب ليست الأولى من نوعها، فكلّ ربيع سياسي في المنطقة تلاه خريف حربٍ أو تسوية ناقصة، من كامب ديفيد إلى أوسلو، ومن وادي عربة إلى صفقة القرن، كانت الولايات المتحدة دائماً تطرح حلولاً تحمل في ظاهرها السلام وفي باطنها إعادة ترتيب النفوذ، واليوم، يعود ترامب بخطة “وقف نار مشروط”، عنوانها الإنساني “إنقاذ غزة”، وهدفها السياسي إعادة الإمساك بخيوط الشرق الأوسط من جديد.
لبنان، كما جرت العادة، يجد نفسه في قلب المعادلة من دون أن يكون طرفاً مباشراً فيها؛ فالجنوب اللبناني ليس مجرد خط تماس؛ هو خط اختبار لكل تسوية تمرّ في فلسطين، حين وُقّع اتفاق أوسلو عام 1993، شهد الجنوب تصعيداً إسرائيلياً استمر حتى التحرير عام 2000. وعندما أُطلقت مبادرة خارطة الطريق عام 2003، بدأ الضغط لفرض تطبيق القرار 1559 ونزع سلاح المقاومة، واليوم، بعد خطة ترامب، تعود الأسئلة ذاتها بثوب جديد: هل سيُطلب من لبنان أن “يُهدّئ” مقابل وعود اقتصادية؟ وهل يصبح وقف إطلاق النار في غزة نموذجاً يُراد تعميمه جنوب الليطاني؟
الجنوب اليوم في حالة ترقّب دقيقة؛ فإسرائيل، التي لم تتعوّد الانسحاب بلا مقابل، ستسعى إلى توسيع مفهوم التهدئة ليشمل لبنان، تحت شعار “ضمان أمن الحدود الشمالية”.
وفي المقابل، حزب الله يرى في أي ترتيبات دولية للجنوب محاولة لتقييد قواعد الاشتباك التي رسّخها منذ حرب تموز 2006، تلك الحرب التي انتهت دون نصر إسرائيلي، لتكرّس معادلة ردعٍ متبادل.
ومن هنا، يبدو أنّ أي تهدئة مفروضة من الخارج ستصطدم بالواقع الميداني، لأنّ الجنوب اللبناني لا يُدار بالقرارات الدولية وحدها، بل بمعادلة الوجود والكرامة والسيادة.
إقليمياً، تحمل خطة ترامب رائحة إعادة التموضع بين القوى الكبرى ؛ فواشنطن تحاول استعادة دورها في المنطقة بعد سنوات من الانكفاء، والعواصم العربية الكبرى – الرياض، القاهرة، والدوحة – تجد نفسها بين ضغط الشعوب وغواية التسوية، وإيران، التي تتعامل مع الساحات من غزة إلى صنعاء كوحدة جغرافية استراتيجية، ترى في أي اتفاقٍ من دون ضمانات لمحور المقاومة تهديداً لمعادلة الردع التي بنتها بصبر على مدى عقدين.
في خضمّ ذلك، يبدو لبنان أشبه بمرآةٍ تعكس كل هذه التناقضات: فهو جزء من محورٍ إقليمي متّصل، لكنه يعيش في دولة مثقلة بالانقسام السياسي والاقتصادي، تُدار أزماتها بالمسكنات أكثر مما تُحلّ بالقرارات.
ولعلّ أخطر ما في الأمر هو أنّ لبنان قد يُستدرج إلى تسوية على قياس الآخرين، تُقدَّم فيها المساعدات كطُعمٍ مقابل التنازلات، تحت عنوان “دعم الاستقرار الاقتصادي”.
لكنّ التجارب اللبنانية، من اتفاق القاهرة عام 1969 إلى الطائف عام 1989، تؤكد أنّ التسويات التي لا تنبع من الداخل تبقى رهينة ميزان القوى الخارجي، وتنهار عند أول عاصفة.
خطة ترامب قد تمنح المنطقة هدنة مؤقتة، لكنها لا تُقدّم حلاً جذرياً للصراع؛ فالسلام الذي يُفرض من فوق، لا يصمد في أرضٍ ما زال جرحها مفتوحاً، ولبنان، بخبرته التاريخية، يعرف أنّه عندما تُرسم خرائط المنطقة على الطاولات الدولية، غالباً ما يكون هو السطر الصغير الذي تُعاد صياغته في اللحظة الأخيرة.
ولعلّ التشويق في المرحلة المقبلة يكمن في معرفة ما إذا كان لبنان سيستطيع تحويل الأزمة إلى فرصة، فيستفيد من التهدئة لتثبيت موقعه السيادي، أو ما إذا كان سيتحوّل مجدداً إلى “منطقة انتظار” بين حربٍ لم تبدأ وسلامٍ لم يولد بعد.
قد يبدو اتفاق ترامب، في ظاهره، صفحة جديدة في مسار التسويات، لكن في العمق هو فصل آخر من فصول إعادة توزيع الأدوار في الشرق الأوسط، ووسط هذا المشهد المليء بالضباب، يبقى لبنان واقفاً عند عتبة التاريخ، يحاول أن يحمي ما تبقّى من توازنه الهشّ بين محورٍ يقاتل باسم المقاومة، ومحورٍ يفاوض باسم الاستقرار.
فهل يستطيع هذا البلد الصغير أن يصمد مجدداً كما صمد بعد الحروب والحصارات، وأن يجد طريقه إلى توازنٍ جديد لا يُرسم في واشنطن ولا في طهران بل في بيروت نفسها؟
الجواب، كما دائماً، سيُكتب في الجنوب… حيث تختلط السياسة بالدم، وتبقى عيون اللبنانيين معلّقة على الأفق بين الخوف والأمل.

alafdal-news
