ميرنا صابر - خاصّ الأفضل نيوز
في بلد يتقاطع فيه الاقتصاد مع الثقافة بشكل يومي، لم يعد ارتفاع أسعار الذهب في لبنان حدثًا ماليًا بحتًا، بل تحوّل إلى مؤشر على تبدّل أنماط العيش والسلوكيات الاجتماعيّة.
فالمعدن الأصفر الذي تخطى في الأسابيع الأخيرة مستويات غير مسبوقة، حيث تجاوزت الأونصة عتبة الـ 4000 دولار وفق ما أظهرته بيانات الأسواق، بات يشكّل مرآة للاهتزازات النقدية والماليّة من جهة، ولقدرة اللبنانيين على إعادة صياغة عاداتهم الثقافيّة من جهة أخرى. هنا يظهر المشهد بوضوح: أزمة اقتصادية تضرب كل تفاصيل الحياة، وتفرض على الناس إعادة ابتكار طقوسهم وعلاقاتهم مع الاستهلاك والادخار والمناسبات.
ففي مجتمع طالما ارتبطت فيه المناسبات العائليّة بشراء الذهب كهدايا أو رمز للوجاهة، أصبح المشهد مختلفًا. العائلات التي كانت تفتخر بتقديم أطقم كاملة في الأعراس أو الأعياد، باتت تلجأ اليوم إلى شراء قطع صغيرة أو رمزية، وأحيانًا إلى بدائل غير تقليدية كالسلع الاستهلاكيّة أو الأجهزة الإلكترونيّة. حفلات الزفاف التي اشتهرت بفخامتها لم تعد تستوعب عشرات الضيوف كما في السابق، بل تقلّصت إلى لقاءات عائليّة مصغرة تكتفي بالحد الأدنى من المظاهر. حتى العادات البسيطة كتبادل الهدايا في الأعياد باتت تتم على أساس جماعي بين أفراد الأسرة لتخفيف الأعباء، ما يعكس تحولًا ثقافيًا عميقًا فرضته ضرورات الاقتصاد.
هذا التحول يوازيه أيضًا تغيّر في السلوك الاستهلاكي اليومي. اللبناني الذي كان يشتري كميات كبيرة للتخزين أصبح اليوم يلجأ إلى شراء بالكيلوغرامات القليلة أو القطع المفردة بحسب الحاجة. الإصلاح حلّ مكان الاستبدال، فالأجهزة الكهربائية أو الأثاث لا يُرمى بسهولة بل يُصلّح مرارًا.
الأسواق المحليّة والمنتجات اليدوية استعادت حضورها بعدما كان المستهلك يلهث وراء العلامات الأجنبيّة، والسبب ليس مجرد حنين إلى التراث، بل معادلة اقتصادية قاسيّة تفرض خفض الكلفة أينما أمكن. حتى مفهوم المشاركة بدأ يتسع، سواء باستعارة الأدوات بين الجيران أو باستخدام منصات رقميّة لتقاسم الموارد.
على المستوى المالي، يلاحظ أن الأولويات أعيد ترتيبها. جزء كبير من العائلات بات يفضّل تسديد الديون أولًا قبل أي إنفاق آخر، بينما ظهر ميل لتسييل الأصول الصغيرة بدل المجازفة في استثمارات كبيرة. الوعي تجاه تنويع وسائل الادخار ازداد، فإلى جانب الذهب والدولار ظهرت خيارات مثل شراء قطعة أرض صغيرة أو الدخول في مشاريع إنتاجيّة محليّة لتأمين مصدر دخل إضافي. لكن المفارقة أن ارتفاع الذهب نفسه شكّل معضلة: هل يشترونه كملاذ آمن أم يتجنبونه خوفًا من تصحيح مفاجئ؟ هنا جاءت تصريحات عدد من الخبراء لتشير، كما أوضح الاقتصادي أنيس أبو دياب، إلى أنّ الذهب اليوم ملاذ مؤقت وليس ضمانة مطلقة، وأن التسرع في اقتنائه قد يرهق الأسر أكثر بدل أن يحميها.
البعد الثقافي يتجلى أيضًا في القيم والمفاهيم. ما كان يُعتبر مظهريًا أو ضروريًا للحفاظ على "المكانة الاجتماعيّة" بدأ يتراجع لصالح قيم أبسط: البساطة مقبولة أكثر، والتبذير بات عيبًا في زمن الحاجة. حتى الأجيال الشابة صارت تنخرط في نقاشات ماليّة يوميّة داخل البيوت، في محاولة لتعلّم فنون الادخار والاستثمار. لكن هذه التحولات ليست دائمًا سلسة، فهي تكشف أيضًا عن توترات بين جيل اعتاد على الوفرة والمظاهر، وجيل جديد مضطر للتقشف والابتكار.
هكذا يصبح الذهب، في لبنان اليوم، أكثر من مجرد معدن يتقلب سعره. هو معيار اقتصادي يكشف عمق الأزمة، وهو في الوقت نفسه عنصر ضاغط يعيد تشكيل العادات الثقافية والخيارات الفردية والجماعية.
وفي ظل استمرار الغموض حيال مصير الليرة ومحدودية الإصلاحات، تبقى هذه التغييرات بمثابة تكيف إجباري يضمن بقاء المجتمع على قيد الحياة ولو بأدوات جديدة، فيما تظل الأسئلة الكبرى مفتوحة: هل يشكل هذا التكيف انتقالًا دائمًا نحو ثقافة اقتصادية أكثر واقعية، أم أنّه مجرد مرحلة عابرة ستتبدد مع أي تحسن مفاجئ في الأوضاع؟