عبد الناصر طه – خاص "الأفضل نيوز"
في مساءٍ من أمسياتِ الصيف، شاركتُ في حفلِ تكريمِ الأوائلِ والمتفوّقين في ثانوياتِ البقاعينِ الغربيِّ والأوسط، أقامتْه دارُ معلّمي الغدِ الأفضل (دارُنا)، على مسرحِ ديوانِ القصر، حيث كان المكانُ يعبقُ بفرحٍ ناعمٍ يشبهُ عبيرَ الوردِ بعدَ المطر، والوجوهُ مشرقةٌ كأنّها تحتفلُ بالحياةِ ذاتِها، لا بالنجاحِ فقط.
هناك، وبعدَ غيابٍ طويلٍ عن ميادينِ التربيةِ والتعليم، التقيتُ أصدقاءَ الطفولةِ الذين صاروا اليومَ آباءً وأمهاتٍ، يرافقون أبناءَهم في خطواتِهم الأولى نحوَ الحلمِ الجامعي. رأيتُ في ملامحِهم مزيجًا من الفخرِ والحنين، وتذكّرنا معًا أيّامَ الدراسةِ في ثانويةِ جبّ جنين الرسمية، الثانويةِ الوحيدةِ في المنطقة، حين كنّا نحلمُ بعالمٍ واسعٍ لا تحدّه الجبالُ ولا الفصول.
تفرّقتْ بنا السبلُ منذ ذلك الحين: بعضُنا سافرَ بعيدًا ليُكملَ دراستَه، وآخرونَ دخلوا ميادينَ العملِ الحرّ التي أنهكتْها الأزماتُ الاقتصادية، فيما استطاعَ قلّةٌ منّا متابعةَ دراستِهم الجامعيةِ حتى التخرّج.
ومن بينِ الحاضرين، كان صديقي عمّار الذي جاءَ برفقةِ زوجتِه وابنتِه المتفوّقةِ على مستوى المنطقة. كان وجهُه يشعّ امتنانًا وفخرًا وهو يقول:
"إنّ تكريمَ ابنتي ورفاقِها المتفوّقين من أبناءِ منطقتِنا، يُشعرني بأنّ الحلمَ بدأ يتحقّق هنا، بينَ أهلِنا وأرضِنا."
كان يتحدّثُ كأبٍ ينتظرُ ميلادًا جديدًا. أخبرني أنّ ابنتَه ترغبُ في دراسةِ الصيدلةِ في الجامعةِ اللبنانيةِ الدوليةِ القريبة، وسألني عن فرصِ هذا الاختصاصِ وتسهيلاتِه. وعدتُه بزيارةٍ قريبة، نتجوّلُ فيها في رحابِ الجامعةِ التي صارت محطَّ أنظارِ العلمِ والثقافةِ وبيتَ الآلافِ من الطلّابِ الباحثين عن المعرفة.
وبعدَ أيّامٍ قليلة، زارني عمّار برفقةِ عائلتِه وأحدِ أولياءِ أمورِ الطلّاب. جلسنا نتحدّث عن التعليم، وعن الزمنِ الذي كان فيه الطريقُ إلى الجامعةِ رحلةً شاقّةً من الصبرِ والتعب. قال عمّار وهو ينظرُ إلى ابنتِه:
"كم من شابّةٍ كانت أحلامُها تضيعُ في المسافةِ الطويلةِ إلى المدينة! وكم من شابٍّ اضطرّ إلى تركِ مقعدِه الدراسيّ ليعملَ ويسدَّ مصاريفَ السكنِ والسفر. اليومَ تغيّرَ كلُّ شيء… الجامعةُ باتت قريبةً من بيوتِنا، من قلوبِنا أيضًا."
ابتسمتْ زوجتُه وأضافتْ بصوتٍ يملؤه حنانُ الأمومة:
"ابنتي الكبرى تريدُ أن تدرسَ الصيدلة، وأختُها تفكّرُ في الهندسة. كان حلمُ العاصمةِ بعيدًا وصعبًا علينا، أمّا الآن فبإمكاني رؤيتُهما تعودانِ كلَّ مساءٍ إلى بيتِنا، تضحكانِ وتتحدّثانِ عن محاضراتِهما. هذه الجامعةُ ليست حجارةً وجدرانًا، إنّها نافذةٌ لأهلِ المنطقةِ على الغدِ الأفضل."
تملّكني شعورٌ بالفرح وأنا أستمعُ إليها. شعرتُ أنّ البذورَ التي زرعناها في حقولِ التعليمِ بدأتْ تنبتُ سنابلَ أملٍ حقيقيّة.
تذكّرتُ أولادي الذين تخرّجوا من هذه الجامعة، وتذكّرتُ بناتي اللواتي اخترنَ دروبَ الطبِّ والعلمِ في العاصمة، والصعوباتِ الجمّةَ التي مررْنا بها؛ وتذكّرتُ أيضًا كيف كانت أخبارُ القرى تملؤها الحروبُ والأزمات، فصارتْ اليومَ تتحدّث عن نجاحٍ وتفوّقٍ ومستقبل.
قال أحدُ الأصدقاءِ مقاطعًا حديثَنا:
"أتدري؟ الطريقُ إلى الجامعةِ لا تستغرقُ نصفَ ساعة، وحافلاتُ النقلِ تصلُ إلى مداخلِ بيوتنا. كأنّ الأملَ صار يسيرُ في قافلةٍ يوميّةٍ نحوَ العلم."
ابتسمْنا جميعًا، وتحدّثَ أحدُ الحاضرين عن التغييرِ الذي أحدثتْه الجامعةُ في حياتِنا اليومية:
"حتى جارُنا أبو سمير، سائقُ الأجرة، صار يبتسمُ كلَّ صباح، يقولُ إنّ الجامعةَ فتحتْ له رزقًا جديدًا، فهو لم يَعُد يعملُ يومين في الأسبوع، بل صار يخرجُ كلَّ يومٍ، يحملُ الطلّابَ والموظّفين والأساتذة، ويعودُ مسرورًا آخرَ النهار."
نظرتُ حولي، ورأيتُ في عيونِ الجميعِ بريقًا مختلفًا. لم تكن الجامعةُ القريبةُ من قريتنا مجرّدَ مبنىً من حجرٍ وزجاج، بل روحًا بثّتِ الحياةَ في المكان. أحيتِ الأسواقَ الصغيرةَ، والمقاهيَ، وحركةَ الناس. صارتِ القرى التي كانت يومًا هامدةً تضجُّ بالحياةِ والعمل.
وهكذا، لم تَعُدِ الجامعةُ قربَ بيوتنا حلمًا بعيدًا، بل حقيقةً تُغيّرُ الوجوهَ والطرقات، وتربط الحاضر بالمستقبل.
إنّها شعلةٌ أضاءت القرى، وعبورٌ نحوَ الغد… الغدِ الأفضلِ بالتأكيد.

alafdal-news
