نبيه البرجي - خاصّ الأفضل نيوز
إذا ما حاول كبار المسؤولين في إيران إجراء مراجعة نقدية لنحو نصف قرن من العداء لأميركا . ما النتيجة ؟ لا شك أن الجمهورية الإسلامية التي تعاني من أزمات اقتصادية وكذلك من أزمات اجتماعية عاصفة , استطاعت فرض نفسها كقوة مركزية بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط , لتبقى خارج أي نفوذ دولي في زمن الاستقطاب الأميركي الذي أثّر , بشكل هائل , في أرجاء الكرة الأرضية .
ولكن كم كانت النتائج كارثية حين لم تتنبه إلى التغيير الذي حصل في خارطة القوى , بمحاولة استعادة دورها الجيوسياسي في المنطقة التي قال هيرودوت , منذ 2500 عام , أنها تقع على خط الزلازل , ليفاخر السناتور جون ماكين بأن بلاده هي القوة الوحيدة "التي تمسك بقرني ذلك الثور الهائج اللذين يقف عليهما الشرق الأوسط" !
أميركا هي التي طردت كلاً من بريطانيا وفرنسا من المنطقة , كما أقامت الأسوار العالية (ومن حلف بغداد إلى الحلف المركزي مروراً بـ"مبدأ ايزنهاور") , لمنع الإيديولوجيا الشيوعية من اختراق منطقة كانت تعاني , بعد 4 قرون من الحكم العثماني , من الضعف والضياع , وإن كانت الوقائع قد أثبتت استحالة اختراق أي مجتمع عربي بسب المناعة الدينية التي ترسخت عبر القرون .
ثمة من يرى بين القوى التي تتعاطف مع إيران أن الانكفاء الجيوسياسي الذي حدث في الأشهر الأخيرة من العام المنصرم يفترض أن يؤدي إلى مراجعة نقدية تقتضي الانكفاء في البنية الايديولوجية للدولة .
وكان المفكر النمساوي ليوبولد وايس الذي اعتنق الإسلام , قد وضع أبحاثاً بالغة الأهمية حول الأبعاد الفلسفية , والسوسيولوجية , في الدين الحنيف , لذلك عهد إليه صديقه محمد علي جناح , مؤسس باكستان , أن يضع دستوراً إسلامياً للدولة .
بعد سنتين من البحث والتنقيب في القرآن خرج بعدم وجود أي ذكر للنظام الإسلامي , أو للدولة الإسلامية , فيه كون الإسلام ديناً كونياً ولم ينزل لفئة معينة أو لمنطقة معينة ...
ولكن كيف قامت إسرائيل على الديانة اليهودية , وتمكنت , في فترة قصيرة , من إثبات تفوقها التكنولوجي والعسكري ؟ أولاً لا دستور فيها , ليكون الجواب عند المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند الذي يعتبر أن اليهودية ولدت كظاهرة ايديولوجية لا كظاهرة الهية . كما أن تيودور هرتزل شخصية مكيافيلية لا شخصية توراتية .
هكذا تبلور لديه مفهوم الدولة التي تكون بمثابة حصان طروادة للأمبراطوريات الأوروبية التي ما لبثت أن توارت لمصلحة الأمبراطورية الأميركية , دون أن نغفل تسلل الجاليات اليهودية في االدول العظمى إلى مراكز القوة في هذه الدول , كمثال للمكيافيلية في الشخصية اليهودية .
بعد تلك الهزة العسكرية التي كشفت هول الثغرات في المؤسسة العسكرية كما في المؤسسة الأمنية الإيرانية (ماذا يعني استهداف الغارات الإسرائيلية لقادة عسكريين وللعلماء النوويين ؟) , بوشرت عمليات مكثفة لإعادة هيكلة تلك المؤسسات ومعالجة الثغرات . تالياً , الحد من من تدخل العقل الايديولوجي , أو العسكري , في صياغة السياسات الديبلوماسية , لنذكر اعتراض محمد جواد ظريف على تدخل الحرس الثوري في الأداء الديبلوماسي , ما أدىإلى إقصائه عن منصبه كوزير للخارجية تولى هندسة اتفاق فيينا , عام 2015 , مع الأميركيين , وكذلك اقصائه عن الضوء ...
والواقع أن مظاهر الانفراج في العلاقات بين واشنطن وطهران بدأت تتبلور أكثر فأكثر في عهد الرئيس باراك أوباما , وهو الأكثر تفهماً للمسار الفلسفي , والتاريخي , للدول , قبل أن يدخل الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض , بالنزق النرجسي , وبتأثير اللوبي اليهودي , ليمزق الاتفاق النووي الذي وصفته وسائل الإعلام الأميركي , في حينه , بالخطوة المنطقية , والمتزنة , في صناعة الاستراتيجيات حيال الشرق الأوسط .
من البداية ظهرت في سلوك ترامب شخصية "شايلوك" اليهودي في مسرحية وليم شكسبير الشهيرة "تاجر البندقية" , وقد برزت , بصورة أكثر وضوحاً , في مقالات الصحف الأوكرانية التي أتهمت الرئيس الأميركي بعقد صفقة مع القيصر الروسي بتقديم أوكرانيا هدية له مقابل الحصول على "المعادن النادرة" فيها , وأن كان هناك في القارة العجوز من يتحدث عن مقايضات , على المستوى الدولي , لا تقل حساسية وأهمية ..
من البداية بدا واضحاً أنه أراد , ومن أجل "إسرائيل العظمى" , وأيضاً كخاصرة بالغة الحساسية في أي صراع مستقبلي بين الأمبراطورية الأميركية والأمبراطوريات الآسيوية التي في طور النشوء , تطبيق نظرية "الاحتواء" التي أطلقها الديبلوماسي الأميركي جورج كينان , مهندس الحرب الباردة , عام 1946 , في الشرق الأوسط بما في ذلك إيران التي سبق لآية الله خامينيئي ولوّح له باستثمارات قدرها 4 تريليونات دولار .
الثابت وجود اتجاه إلى حدوث تحولات بنيوية في السياسات الإيرانية , وبدءاً من المحادثات التي تجري في سلطنة عمان بين أطراف النزاع , بما في ذلك "أنصار الله" , في اليمن , في خطوة لإزالة أي لمسة رمادية في العلاقات بين الرياض وطهران , لنتوقف عن نقاط أخرى على جانب كبير من الدقة :
ـ إعلان الرئيس دونالد ترامب , أثناء انعقاد منتدى الاستثمار الأميركي ـ السعودي في واشنطن , "أن إيران تريد عقد اتفاق (نووي) مع الولايات المتحدة .
ومن المرجح أن نتوصل إلى اتفاق معهم" , دون أن يصدر أي نفي لإيران , لذلك .
ـ تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بأن "صديقي العزيز وزير الخارجية اللبناني يوسف رجي دعاني إلى مقابلة لإجراء التفاوض (على أرض محايدة) " , داعياً إياه لزيارة طهران . مع الإشارة إلى أن رجي ممثل "القوات اللبنانية" في حكومة الرئيس نواف سلام , وهي المعروفة , كحزب سياسي , بعدائها الشديد لـ"حزب الله" , كما لإيران .
لا شك أن تلك التحولات في السياسات الإيرانية من اللغة الايديولوجية إلى اللغة البراغماتية , لا بد أن تكون لها تأثيرات هامة على االساحة اللبنانية , بما في ذلك تفكيك الأزمات التي هي موضع خلافات حادة بين المكونات اللبنانية . بالتالي , الحد من الجنون الإسرائيلي , أو على الأقل احتواء الذرائع التي يطرحها بنيامين نتنياهو على الطاولة . لنتفاءل ...

alafdal-news
