د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
بعيدًا عن الخطابات الشّعبوية والكلام الإعلاميّ الاستهلاكي الممل الذي يطلقه خصوم أمريكا حول مؤشرات ضعفها وانحسار قوّتها ونفوذها، يبدو أن العدّ العكسي لانحدار الأمبراطورية الأمريكيّة قد يصبح واقعًا قائمًا في المستقبل المنظور إن لم تعمد واشنطن إلى إصلاح الأمراض والأزمات التي تحيط بها من كلّ جانب.
فالولايات المتحدة أصبحت تعاني من تراجع نسبي حذّر منه ملخّص لدراسة جديدة (غير منشورة) أعدّتها مؤسسة "راند" البحثية الأمريكيّة الرائدة، بتكليف من "مكتب التقييم الصافي التابع للبنتاغون". وهذا برأي الخبراء والقيادات الأمريكيّة ينبغي أن يكون بمثابة نداء استيقاظ عالٍ لأميركا في هذا العام الانتخابي الحاسم.
ومتى ستصدر هذه الدراسة، وما أهميتها؟
عمليًّا، سيتم نشر دراسة راند، التي تحمل عنوانًا مسكنًا "مصادر الديناميكية الوطنية المتجددة"، يوم الثلاثاء المقبل في 30 نيسان الجاري. والأكثر أهمية أنها تأتي كجزء من سلسلة تقارير بتكليف من مكتب البنتاغون لتقييم الوضع التنافسي للولايات المتحدة في مواجهة الصين الصاعدة، أما مؤلف المشروع (أي الدراسة) فهو مايكل جيه مازار.
وعلى الرغم من أن الدراسة مكتوبة في الغالب باللغة الجافة لعلم الاجتماع، إلّا أنها تعتبر مادة متفجرة، خصوصًا وأن تقييمها الصريح، يدخل ضمن تقليد مكتب التقييم الصافي، الذي أنشئ في عام 1973 خلال الأيام القاتمة للحرب الباردة من أجل "التفكير في ما لا يمكن تصوره".
وكان المدير المؤسّس للمكتب هو أندرو مارشال، وهو مفكر غريب الأطوار مشهور. فيما يرأسه حاليًّا جيمس بيكر، وهو ضابط متقاعد في القوات الجوية يحظى باحترام واسع، وعمل كخبير استراتيجي لرئيسين لهيئة الأركان المشتركة.
وما الذي تقوله الدراسة عن التراجع النسبي لأمريكا؟
تجيب الدراسة على السؤال البديهي الذي يدور في أذهان المراقبين، حول الأسباب التي أدت إلى "التراجع النسبي في مكانة الولايات المتحدة"، إذ يفنّد الفصل الافتتاحي مشكلة أميركا بشكل صارخ بالإشارة إلى عاملين خطرين اثنين:
الأول، يتناول موقفها التنافسي المهدد من الداخل، لا سيما فيما يتعلق: بتباطؤ نمو الإنتاجية، الشيخوخة السكانية، النظام السياسي المستقطب، وبيئة المعلومات الفاسدة على نحو متزايد.
والثاني، خارجي يتصل بالتحدي المباشر المتزايد من الصين، وتراجع احترام العشرات من الدول النامية لقوة الولايات المتحدة.
أكثر من ذلك، يستشهد مؤلفو راند بمشاكل مألوفة للغاية يعاني منها المجتمع الأمريكي تحديدًا في عام 2024 وأبرزها: "الإدمان على الترف والانحطاط، "الفشل في مواكبة المتطلبات التكنولوجية، البيروقراطية "المتحجرة"، فقدان الفضيلة المدنية"، "التمدد العسكري المفرط"، "الفشل في مواكبة المتطلبات التكنولوجية". النخب الأنانية والمتحاربة"، "الممارسات البيئية غير المستدامة"، وتتساءل الدراسة هل يبدو هذا مثل أي بلد تعرفه؟
وعليه، وإذ تنبّه الدراسة من أن هذا التردي "يتسارع"، فإن المفارقة هنا تتمثل بأنه يتم النظر إلى المشكلة الأساسية بمصطلحات مختلفة تمامًا من قبل شرائح مختلفة من المجتمع والقيادات السياسية، حيث لكل منهم نظرته، فهناك رواية يمينية عن التراجع وأخرى يسارية.
ورغم اتفاقهما على أن شيئاً ما معطل في أميركا، فإن الجانبين يختلفان، إلى أقصى حد في كثير من الأحيان، حول ما يجب القيام به حيال ذلك.
وماذا عن التحديات؟
يجادل المؤلفون أن التحدي الرئيسي الذي يواجه القيادات الأمريكية هو "التجديد الوطني الاستباقي"، أي بعبارة أخرى، معالجة المشاكل قبل أن تنعكس على أمريكا نفسها وبالتالي تنخر بها سوسة التدمير، كما تحدد الدراسة واستنادًا للأدبيات التاريخية والاجتماعية، الأدوات الأساسية للتجديد التي يمكن إيجازها بالآتي:
1 ــ الاعتراف بالمشكلة (ويكرر المؤلفون هذه العبارة ثلاث مرات نظرًا لأهميتها).
2 ــ تبني حلول للمشكلات القائمة، بدلاً من الاعتماد على الموقف الأيديولوجي.
3 ـــ وجود هياكل للحكم الرشيد.
4 ــ الحفاظ على "التزام النخبة بالصالح العام" (وهو الأكثر إثارة)
الجدير بالذكر، أن مؤلفي دراسة راند يدرجون أداء الولايات المتحدة في عام 2024، في قائمة "إصلاح المشكلة"، ويصنفونه على أنه "ضعيف" أو "مهدّد" أو في أفضل الأحوال "مختلط".
وما هي الحلول والمخارج؟
ترى الدراسة، أنه ما لم يتمكن الأميركيون من توحيد جهودهم لتحديد هذه المشاكل وحلها، فإن واشنطن تكون تجازف حينها بالسقوط في دوامة هابطة، وإذ يشير المؤلفون إلى أن "التعافي من التدهور الوطني الكبير طويل الأمد أمر نادر ويصعب اكتشافه في السجل التاريخي، يستحضر هؤلاء العديد من الشواهد التاريخية، مثل: روما، أو إسبانيا هابسبورغ، أو الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية المجرية، أو الاتحاد السوفييتي.
من هنا، تستنتج الدراسه أنه عندما تنزلق القوى العظمى من موقع التفوق أو القيادة بسبب عوامل داخلية، فإنها نادرًا ما تعكس هذا الاتجاه".
ليس هذا فحسب، تقدم راند دراستين لحالة حيث نجحت الإصلاحات العاجلة في كل منهما، بالتغلب على الفساد والفوضى التي كان من الممكن أن تكون كارثية لولا ذلك.
المثال الأول هو بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر. لقد قامت ببناء إمبراطورية عالمية ناجحة بشكل خيالي. ولكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت تتعفن من الداخل بسبب "الخسائر البشرية والبيئية الناجمة عن التصنيع، والفساد الملحوظ وعدم فعالية المؤسسات السياسية، وسيطرة مجموعة صغيرة من النخب المالكة للأراضي على السياسة، واتساع فجوة التفاوت الاقتصادي، وغير ذلك الكثير.
ومع ذلك، نهضت بريطانيا، وقامت بحملة من الإصلاحات التي اجتاحت الحياة البريطانية وغيرت مسارات السياسة فيها.
وقد شارك قادة المفكرين هذا الشغف بالإصلاح، من توماس كارلايل إلى تشارلز ديكنز.
بالمقابل، تكمن دراسة الحالة الثانية داخل الولايات المتحدة نفسها، بعد فورة العصر الذهبي في أواخر القرن التاسع عشر. إذ أدى هذا الازدهار الصناعي إلى حدوث تحوّل مذهل بأميركا، ولكنه خلق تفاوتات سامة، وأضراراً اجتماعية وبيئية، وفساداً فادحاً، ولهذا قاد الجمهوري ثيودور روزفلت حركة «تقدمية» أدت في النهاية إلى إصلاح السياسة، ومعالجة الأعمال وحقوق العمال والبيئة ومستنقع الفساد السياسي.
علاوة على ذلك، تحدث مؤلفو مؤسسة راند نقلاً عن المؤرخ جاكسون ليرز أن "التقدميين في أمريكا كان لديهم آنذاك "توق إلى الولادة من جديد "وسعوا إلى ضخ" بعض الحيوية العميقة في الثقافة الحديثة التي بدت هشة وعلى وشك الانهيار".
في المحصلة، أمام ذلك كله، تدق النخب السياسية والفكرية والأكاديمية ناقوس الخطر ممّا هو قادم على أمريكا إذ لم يتم تداركه، ويعتبر هؤلاء أن رسالة هذه الدراسة واضحة بشكل صارخ: أمريكا على منحدر تسير نحو هبوط يمكن أن يكون قاتلًا.
ما سينقذنا هو التزام واسع النطاق، بدءًا بالنخب، بالعمل من أجل الصالح العام والنهضة الوطنية" وتخلص هذه النخب إلى القول: لدينا الأدوات، لكننا لا نستخدمها، وإذا لم نتمكن من العثور على قادة جدد والاتفاق على حلول تناسب الجميع، فإنّنا نغرق...