د. علي دربج - خاص الأفضل نيوز
يبدو أن حروب أمريكا الأبدية لن ولم تنتهي أبدا. فكأنما لا يكفي الإدارة الأمريكية مشاركتها المباشرة بالمحرقة المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، (ومشاهد جثث الأطفال المشتعلة والمتفحمة في رفح أكبر دليل على ذلك) بل تخطط حاليا لمواجهة التقدم الروسي في أوكرانيا، حيث يدرس الرئيس جو بايدن اتخاذ إجراءين مضادين صارمين جديدين استناد للتوصيفات الأمريكية:
الأول، معاقبة الصين، بزعم تزويد موسكو بالتكنولوجيا العسكرية الرئيسية.
والثاني، وهو الأخطر، وقد يشعل أوروبا وحتى كثير من العالم أجزاء ، ويتمثل برفع القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للأسلحة الأمريكية قصيرة المدى لاستهداف الداخل الروسي.
الإدارة الأمريكية ودبلوماسية الاحتواء للصين
ومع أن هذه الخطوات أعلاه (وهي قيد النظر الآن) تُعد تصعيدًا كبيرًا لسياسة بايدن المدروسة بعناية لدعم أوكرانيا، غير أنها تعكس القلق الشديد الذي تعيشه الإدارة الأمريكية، نتيجة الضعف والنكسات التي تعرض لها الجيش الأوكراني مؤخرا في عدد من ساحات القتال.
ولهذه الغاية، عمد البيت الأبيض للتلويح بالعصا الدبلوماسية الخشنة لثني الصين عن مساعداتها لروسيا، مع الحفاظ على تجنب المواجهة المباشرة، مع كل من الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين وحليفه الصيني شي جين بينغ.
وتبعا لذلك، تبنى وزير الخارجية أنتوني بلينكن نهجا دبلوماسيا عدوانيا بعد الزيارتين الأخيرتين لبكين وكييف. فخلال وجوده في بكين، قال لإذاعة "بي بي سي" أواخر أبريل/نيسان الفائت، إن الصين "تساعد في تأجيج أكبر تهديد لأوروبا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي"، وأشار إلى أن الولايات المتحدة تدرس فرض عقوبات جديدة على الشركات والمؤسسات المالية الصينية.
لكن مهلا، فالسبب الكامن وراء لغة التهديد التي استخدمها بلينكن مع بكين، يرتبط أولا وأخيرا، بما سمعه في كييف بعد زيارته لها، من روايات مباشرة غير سارة، عن المكاسب الروسية الأخيرة بالقرب من خاركيف وأماكن أخرى في شرق أوكرانيا. لذا كان من الطبيعي أن يشعر رئيس الدبلوماسية الأمريكية، بالقلق الشديد، لدرجة أنه حثّ زملاءه في الإدارة الأمريكية على إعادة النظر بالحظر المفروض على أوكرانيا، وبالتالي إطلاق يد الجيش الأوكراني، لقصف العمق الروسي، بالمدفعية والصواريخ الأمريكية قصيرة المدى (والكلام هنا على ذمة مسؤولين أمريكيين، ووسائل إعلام عالمية).
ولماذا هددّت إدارة بايدن بكين؟ وما علاقة ذلك بالمساعدات العسكرية الصينية لروسيا؟
في الواقع، تدرك واشنطن أن التهديد بفرض عقوبات جديدة على الصين أمر حساس هذه الأيام، خصوصا لأنه يأتي في وقت يحاول فيه البلَدان تثبيت استقرار العلاقات بينهما. لكن بالمقابل، فإن التحالف الروسي الصيني أصبح يشكل معضلة حقيقية للبيت الابيض.
فالمسؤولون الأميركيون مرعوبون من التعاون المتزايد بين البلدين على كافة الصعد خصوصا العسكرية منها، وتبعا لذلك، يتهمون بكين ــ رغم التزامها من الناحية الفنية بتعهدها بعدم تزويد موسكو بالأسلحةـــ بأنها باتت أكبر داعم لقطاع الدفاع الروسي، وهو ما أظهره تقرير أعده الباحث ناثانيال شير لمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، حيث وجد بعد تحليله لبيانات الجمارك الدولية، أن الصين كانت أكبر مورد لروسيا لخمسين مادة ذات استخدام مزدوج "ذات أهمية عالية جدا".
كما أظهرت بيانات الجمارك، أن حصة الصين من واردات روسيا من هذه السلع، ارتفعت من 32 % في 2021، إلى 89 % العام الماضي.
وتعليقا على ذلك قال بلينكن ل "بي بي سي" إن هذه العناصر ذات الاستعمال المزدوج، يتم استخدامها لمساعدة روسيا في ما يعتبره جهدًا استثنائيًا غير عادي لصنع المزيد من الذخائر والدبابات والمركبات المدرعة والصواريخ" - على الرغم من استمرار الصين في الامتناع عن "توفير الأسلحة الفعلية للكرملين.
وأضاف الوزير بلينكن، إن الصين تزود روسيا بحوالي 70% من وارداتها من الأدوات الآلية، و90% من الإلكترونيات الدقيقة المستوردة.
وفي السياق ذاته، ووفقًا للمعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث بريطاني للسياسة الخارجية، فقد زودت الصين روسيا بتكنولوجيا الأقمار الصناعية التي يمكن أن تكون حاسمة للاتصالات والاستهداف في ساحة المعركة في أوكرانيا.
وماذا عن الشراكة الصينية ـــ الروسية؟
تعترف واشنطن أن الرئيس الصيني اتبع استراتيجية متوازنة فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية. لكن بكين مع ذلك لم تتخلى عن حليفها الروسي.
انطلاقا من هذه النقطة، تنقل مصادر في وكالة الأمن القومي الأمريكية، أنه بعد أقل من ثلاثة أسابيع من إعلان كل من: الرئيس الصيني شي، وبوتين عن شراكة "بلا حدود"، دعت بكين علناً إلى وقف إطلاق النار، لكن بوتين طلب الأسلحة.
وتضيف المصادر كانت الأسلحة الصينية جاهزة للتسليم عندما اتصل بايدن بشي ليحذره من أن الولايات المتحدة سترد، مما أثار ما وصفه المسؤولون الأمريكيون في الوكالة، بأنه رد غاضب من شي جين بينج الذي سأل بايدن عما إذا ما كان يهدده.
ومنذ تلك المواجهة، امتنع شي عن إرسال شحنات الأسلحة المباشرة، بحسب مسؤولين أميركيين أكدوا إن الزعيم الصيني أوكل للدبلوماسية الصينية ليو هي، نائب رئيس الوزراء السابق وأحد المفاوضين الأكثر ثقة لدى شي مع الغرب، مهة الإشراف على المساعدة الهادئة للمجهود الحربي الروسي. وفي الوقت نفسه، أرسلت الصين رسالة سلام إلى أوكرانيا وداعميها الأوروبيين بشأن التوصل إلى تسوية نهائية.
وما هو التقييم العسكري لأوكرانيا حاليا؟
عمليا، تلقت أوكرانيا في الأسابيع الأخيرة ضربات موجعة، حققت خلالها القوات الروسية مكاسب عسكرية استراتيجية ،أما السبب وفقا للخبراء العسكريين الغربيين، فيعود الى التأخير الطويل في شحنات الأسلحة الأمريكية.
وبينما كان الجمهوريون في مجلس النواب الأمريكي مترددين في منح المساعدات العسكرية لأوكرانيا، اضطرت الأخيرة إلى التفكير في الانسحاب من مناطق مختلفة، كون الأسلحة التي كانت الولايات المتحدة تأمل أن ترسلها الى كييف - مثل دبابات M1 Abrams، وأنظمة صواريخ من طراز HIMARS والطائرات المقاتلة من طراز F-16 - أثبتت أنها معرضة لضربات الطائرات بدون طيار والتشويش الإلكتروني والدفاعات الجوية الروسية.
الجدير بالذكر، أن الولايات المتحدة، لا زالت (حتى كتابة هذه السطور) تقيّد استخدام أوكرانيا للأسلحة الأمريكية الكاسرة للتوازن في الداخل الروسي، لذا فهي غير قادرة على ضرب المراكز اللوجستية الروسية الكبيرة ومراكز تعبئة القوات عبر الحدود. غير أن ذلك، ربما يتغير، نتيجة ضغط دول الناتو الأخرى على بايدن لتخفيف تلك الضوابط والقيود.
من هنا جاءت أعلى دعوة لتوجيه ضربات داخل روسيا، من الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ. الذي أوضح في اجتماع برلماني لحلف شمال الأطلسي الإثنين الماضي في العاصمة البلغارية صوفيا، أن "خط الجبهة هو إلى حد ما خط الحدود ، وإذا لم تتمكن من مهاجمة القوات الروسية على الجانب الآخر من خط الجبهة لأنها على الجانب الآخر من الحدود ، فأنت بالطبع تقلل حقا من قدرة القوات الأوكرانية على الدفاع عن نفسها".
وأضاف ستولتنبرغ: "الحق في الدفاع عن النفس يشمل الحق في ضرب أهداف عسكرية مشروعة خارج أوكرانيا". والمريب أن المجموعة البرلمانية لحلف شمال الأطلسي في صوفيا، أيدت "رفع بعض القيود على استخدام الأسلحة من قبل أوكرانيا".
في المحصّلة، في حال سمح بايدن باستهداف العمق الروسي بأسلحة أمريكية، فإن هذا سيشكل تحولا وتجاوزا كبيرا للخطوط الحمر التي وضعتها روسيا، وبذلك يكون العالم أمام منعطف خطير، حينها ستدفع أوروبا ثمنًا باهظا على حساب أمنها القومي واقتصادها، لقربها من خطوط التماس الروسية ــ الأوكرانية، التي قد يقرر الكرملين توسيعها(إذا جرى حشره بالزاوية) لتشمل معظم دول القارة العجوز.