يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
رغم معرفتنا بالسّيد الشهيد شُرَحبيل علي السيد من صغرنا وفي شبابنا، إلا أننا قد اكتشفنا في يوم استشهاده أننا لم نكن نعرفه بما يكفي، ولا نقَدّرُ دورَه الجهاديَّ بما يكفي، وقد يكون المبرّر لذلك أسباب أمنية وظروف موضوعية حالت دون إعلانه عن دوره المحوري في مساندة أهلنا في الداخل الفلسطيني.
أذكر في بداية التسعينات من القرن الماضي أنه كان مهتماً بحفظ القرآن الكريم، وكان يطلب مني أن أستمع إلى حفظه لسورة ( نون )، وأذكر أكثر ما أذكر حينها أنه كان حين نقوم بإنشاد المدائح النبويّة يردّد دائماً :
( أمّاهُ ديني قد دعاني للجهاد وللفدا.. أمّاهُ إني زاحفٌ للخلدِ لن أتردّدا.. أمّاهُ لا تبكي عليَّ إذا سقطتُ مُمَدَّدا.. فالموتُ ليس يخيفُني.. ومنايَ أن أستشهِدا ).
نعم لقد كانت أمنيته الشهادة منذ أكثر من ثلاثين سنة لعلمه بما للشهادة من فضل ومكرمة عند الله، ولإيمانه العميق بأحقيّة وقدسيّة قضية شعبه الفلسطيني الأبيّ.
لم نختلف معه يوماً في أية فكرة فيما يتعلق بخياراتنا السياسية، وكانت قناعاتنا تتطابق دائما وتلتقي على الوفاء لنهج المقاومة والشهداء، ولم يكن إلا محدثاً لبقاً أو مصغياً باهتمام ودائمَ الابتسامات، ( فالقائدُ له عقل الكُلِّ)، كما يقول الإمام علي ابن أبي طالب كرَّم الله وجهه، وكان يدرك أن صاحب القضية الجامعة لا ينبغي أن يخاصم أياً من مكوّنات مجتمعه لأنه يحتاج إلى حشد كل الطاقات وتوظيفها في خدمة قضيته المُحقّة مهما اختلفت الرؤى وتعددت السبل، إلا أنه في الفترة الأخيرة كان يعاتبنا بمحبته المعهودة حول إرسال المساعدات إلى أهلنا في غزة وأولويات الدعم والمساندة رغم إدراكه بأنها تصل ورغم ثقته بنا وبالجهات الناقلة، إلا أن هناك المهم وهناك الأهم، حسبَ قوله، من أجل استمرار الصمود والثبات أمام العدو، وكنا نبرّر ما نقوم به بأننا مجرد حاملين للأمانة وأن الناس هم الذين يختارون.
كان الشهيد أبو عمرو من أجود الناس وأكرمهم، ولكنه كان في الوقت عينه من أحرص القياديين على المال العام الذي يخص المجاهدين وعوائلهم، فكان إذا دعا ضيفاً كبيراً إلى "المشاوي" يخلط اللحم بالبطاطا والباذنجان والفليفلة والطماطم والبصل والثوم، بحيث تكون نسبة لحم الضان واحداً من سبعة، وقد دعيت إلى غداء عنده في البرية بحضور صديق مشترك وكنت سعيداً جداً برده على التعليقات التي تتناوله في الجلسة والتي سادَها جو من الوئام والبهجة والضحك، وكان يقول لهم : " هكذا يأكل أهلُنا في غزة هاشم، وإذا زادوا زدنا " .
وعندما وصلت إلى مكان الاستهداف الصهيوني الغادر له عند مفرق بلدة مجدل عنجر كان ابنه الوحيد المهندس عمرو قد سبقني وتعرّف عليه، فأخبرني شباب الصويري ومجدل عنجر، بأنه وقف أمام جثمان أبيه ولم يبكِ وإنما قال له بكل صبر واحتساب وإيمان : ( ألحمد لله يا أبي لقد طلبتها ونلتها، تقبّل الله منك)، وهكذا كان حال أسرته و أهل بيته جميعاً فقد كانوا صابرين محتسبين فخورين بما اختاره شهيدهم وارتضاه ، وكانوا يتوقعون استهدافه في كل يوم وينتظرون أن يختصه الله بهذا التكريم العظيم، وهذا يدل على حسن تربيتهم وإعدادهم ويدل أيضاً على قدرته في التأثير بمحيطه وبيئته ، ولم يقتصر ذلك على أسرته وعائلته وإنما على أجيال من الكشاف ربّاها وغرس فيها قيم التضحية والفداء والبذل والعطاء .
وعندما سار موكبه المهيب من تعنايل إلى المنارة، وتوقف في عدة محطات على الطريق في برالياس ومجدل عنجر والصويري والمنارة واحتشدت الجموع ليحمله الرجال على أكتافهم وتنثر عليه النساء الورد والأرز وتتعالى صيحات التكبير ومن بعدها الزغاريد، كان مثالاً في التضحية والفداء لجيل كنا نظن بأنه نسي القضية الفلسطينية وبأنها لم تعد تعنيه، فإذا به يسابقنا في إظهار مشاعر الفخر والاعتزاز بشهيد الحق والواجب المقدس، وإذا بفخرِه يغلب على قهرِه، ويتمنى أن يختم الله له بالشهادة ليكون شفيعاً للناس وشاهداً على الناس وشهيداً مع النبيّين والصدّيقين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم.
نعم لقد كانت مراسم تشييعه عرساً حقيقياً، وكانت تجربته ومآثره مدرسةً للأجيال، تتعلم منها التعاليمَ الدينية والقيم الإنسانية وتتبنى الخيارات الأصيلة والنبيلة وتحترف الوفاء للأرض والإنسان والمقدسات بدلاً من أن تكون ضحيةً للضياع في المتاهات كما يريد الأعداء، ولذلك صحَّ فيه قول الشاعر العربي :
( إذا مات منا سيدٌ قام سيدٌ
قؤولٌ لما قال الكرام فعولُ ).