خليل حرب- خاصّ الأفضل نيوز
المشهد صار مبتذلا لمستوى لم يعد بالإمكان حتى السخرية منه.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يطالب إسرائيل بوقف محاكمة "مجرم الحرب" بنيامين نتنياهو ويصفه بأنه "بطل عظيم"، ثم يقترح نتنياهو منح جائزة نوبل للسلام للرئيس الاميركي، ثم تلاحق إدارة ترامب مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز، وتفرض عليها عقوبات مطالبة بإقالتها من الأمم المتحدة، لأنها طالبت بوقف الحرب على غزة وانتقدت الحكومات والشركات التي تمول الإبادة.
نادرا ما تجمعت مشاهد الكوميديا السوداء هذه في العصر الحديث، ولم يسبق أن كان الانحطاط العالمي بهذا القدر من التشويه والتضليل، ويساهم في رسمه سياسيون-انتهازيون كعادتهم- لكنهم لم يكونوا ربما بهذا المستوى من الانهيار الأخلاقي.
رئيس الدولة العظمى ترامب يضفي لمساته الجديدة على الكوميديا المهينة بابتذالها وهو يستضيف 5 رؤساء من القارة الأفريقية: يقاطع الرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني لإسكاته، ويطالب رئيس غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو بذكر اسمه وبلده، ثم يندهش فعليا من طلاقة حديث الرئيس الليبيري جوزيف بواكاي باللغة الإنكليزية وهي اللغة الرسمية في هذا البلد الأفريقي منذ أكثر من 150 سنة.
لكن سقطات ترامب في هذه اللحظة الأميركية-الأفريقية في البيت الأبيض، ليست غريبة بتاتا. قبل أسبوعين قال ترامب إن "نتنياهو بطل حرب.. وقام بعمل رائع بالعمل مع الولايات المتحدة لتحقيق نجاح كبير في التخلص من التهديد النووي الخطير في إيران.. وإن الولايات المتحدة أنقذت إسرائيل (خلال الحرب مع إيران)، والآن ستكون هي من ينقذ بيبي نتنياهو"، ولهذا يجب إلغاء محاكمته "السخيفة والمهزلة" أو منحه العفو، لأن نتنياهو بحسب وصفه ، "كان محاربا، ربما لا يشبه أي محارب آخر في تاريخ إسرائيل، وكانت النتيجة شيئا لم يتخيله أحد، وهو القضاء التام على أحد أكبر وأقوى الأسلحة النووية في العالم" (أي أسلحة؟!).
ولمن لم تصله الرسالة، فإن ترامب كررها مجددا وبمضمون أكثر وقاحة: فقد لوح بتعليق المساعدات الأميركية لإسرائيل على خلفية الاستمرار في محاكمة نتنياهو، قائلا إن "ما يفعلونه مع بيبي، ضرب من الجنون". لكن الأخطر في كلامه الجديد، أنه لمَّح ضمنيًّا بموقف كان مفاده أنه "إذا أردتم نهاية المجزرة في غزة التي ضقتم ذرعا بها، فأوقفوا ملاحقته قضائيا لأن المحكمة تعرقل قدرتي على إبرام تسوية تنهي الحرب مع حركة حماس، بما في ذلك حول إيران".
وطالما أن العرب صامتون، فإن الأصوات الأكثر بروزا هي تلك العائدة لشخصيات دولية. فرانشيسكا ألبانيز من بين أكثر الأصوات بروزا، وإعلان وزير خارجية ترامب فرض عقوبات عليها بسبب "جهودها غير الشرعية والمخزية لحث المحكمة الجنائية الدولية على التحرك ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أميركيين وإسرائيليين"، يفضح الثنائي ترامب ونتنياهو، وليس ألبانيز.
الترهيب المافيوي ضدها ليس الأول، وكل من حاول المس بإسرائيل، لوحق بشكل أو بآخر. المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان استقال مؤقتا في ظل بروز اتهامات "جنسية" بحقه. واشنطن فرضت أيضا عقوبات على 4 من قضاة المحكمة الدولية "لحماية سيادتنا وسيادة إسرائيل وأي حليف آخر للولايات المتحدة".
ما فعلته فرانشيسكا ألبانيز، هو أنها عرَّت في ما نشاهده أمامنا منذ 21 شهرا، الغزاة والمحتلين، لا أكثر.
لطالما حكمت المصالح السياسة والسياسيين، لكن تحدي المحاكم الدولية والمنظمات العالمية (ناهيك عن شعوب العديد من دول العالم) بتصوير "مجرم الحرب" كـ"بطل" أنقذ البشرية، يدفع العالم إلى حافة السقوط الأخلاقي المدوي بشكل لم يعهده من قبل. هذا ليس موقفا سياسيا فقط. هذا انحلال كان لا يزال يحفظ -ولو بالحد الأدنى - أخلاقيات ما في العمل وبقاء الجنس البشري.