يحيى الإمام - خاصّ الأفضل نيوز
كنت أستمع منذ قليل إلى مواطن من غزة هاشم يتوجّه إلى أمته العربية من وسط الدمار محاولاً أن يمسحَ الغبار عن وجهها وأن يلبسها ثوبَ العزّة والكرامة الذي يليق بها، وبكل أنفة وشموخ واعتزاز كان يتحدث ويشرح أهمية ما يقوم به المقاومون في غزة دون أن يذكرَ اسمه لأنه لم يعد يعنيه أن تستحسن الأمة كلامَه أو تصفقَ له، بقدر ما يعنيه أن تفهمَ الأمة حقيقة ما يجري فيها ومن حولها وما يُدبَّر لها في ظلام الليل أو في وضح النهار.
يقول هذا المواطن: إن غزةَ اليوم، وهي تواجه أقوى وأكبرَ دول الأرض، إنما تدافع عن كرامة الأمة إلى جانب دفاعها عن القيم الإنسانية الأصيلة والنبيلة، ومن يعتقد بأن معركة طوفان الأقصى قد انطلقت من أجل تحرير الأسرى فقط هو واهم ويفهم الموضوع بأضيق حدوده لأن الموضوع أكبر بكثير وقد عبر عنه الصحافي الملهم محمد حسنين هيكل رحمه الله حين قال : ( لا شيء أقسى من الهزيمة إلا تكريس ثقافة الهزيمة في عقول الأجيال )، وهذه هي النقطة التي تدور حولها معركة غزة، وثقافة الهزيمة هي ما تريد قوى الاستعمار وأدواتها في المنطقة أن ترسخها في وجدان الأمة وفي أذهان الشباب لتقول لهم أنتم مهزومون ولا تستطيعون النهوض ويجب أن تحنوا رؤوسكم لقوى الاستكبار العالمي، ومعركة غزة هي معركة كسر لهذه الإرادة، فغزة هي آخر حصن من حصون الأمة وإذا هزمت غزة ستبقى الأمة خانعةً لمئات السنين، وإذا انتصرت ستعز الأمة وترفع رأسها عالياً لتبدأ مسيرة النهوض، وإذا هزمت إسرائيل ولم تستطع تحقيق أهدافها فلسوف تتوالى هزائمها إلى أن تزول، كما قال أحد حكماء بني صهيون.
إن غزة اليوم تخوض حرباً استثنائيةً لا تشبه أيًّا من الحروب لأنها تدافع عن القيم أولاً وتعاند وتقول : لا للاحتلال ولا للذل والخنوع، ونحن قادرون رغم التضحيات الجسام أن نجترح المعجزات وأن نصنع الانتصارات، ونتذكر هنا الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضوان الله عليه عندما سجن الشاعر الذي قال :
( دعِ المكارمَ لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي)، لأنه يهدم سلم القيم والفضائل ويدعو الناس إلى العيش البهائمي الذي يأكلون فيه ويشربون وينامون ويتكاثرون دون هدف أو قضية إنسانية، وقد صدق أيضاً أحد الرؤساء العرب حين قال في أيام العدوان على العراق الشقيق : ( يريدون منا أن نكونَ قلبًا ينبض وعقلاً لا يفكر ).
إن غزةَ اليومَ بصمودها وتضحياتها قد قدمت للأمة الكثير الكثير، فماذا قدمت الأمة لغزة غير الخذلان والجحود والإنكار والإسهام في التجويع والحصار؟
وإذا كان هذا الخذلان غير مبرر ولا مقبول على المستوى الرسمي الذي اعتدنا على خطابه وموقفه وخياراته واعتباراته، فماذا عن الجماهير العربية والأحزاب العربية والإعلام العربي والمثقفين العرب وطلاب الجامعات العربية؟
ألم يكن مخزياً لنا جميعاً أن يتعاطف أحرار العالم وطلاب جامعات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وأن تكون مواقفهم متقدمةً في حين تتخلف الجامعات العربية والأحزاب العربية عن نصرة المظلومين في فلسطين ولو من منطلق إنساني بحت، لا من منطلق رابطة الدم والدين واللغة والتاريخ والمصالح وما إلى ذلك من جوامع، ولكي تدافع عن أسباب بقائها ومسوّغات استمرارها ونبض حياتها هي نفسها على الأقل؟
طبعاً عندما نقول هذا الكلام لا ننسى صنائع المقاومين الشرفاء في لبنان و اليمن والعراق وما قدموه من دعم وإسناد يُشهد له، وقد نالوا بضرباتهم الموجعة للعدو ومن يقف معه وخلفه، ومن خلال تبرعات من يحيطون بهم وتظاهراتهم ونصرتهم وتأييدهم، ثقةَ أهل غزة واحترامهم وتقديرهم وشكرهم على لسان الناطق باسم أحرار الأمة أبي عبيدة، ولا ترى غزة في الميدان سواهم، وحتى في المفاوضات التي تجري هنا وهناك، فليس قليلاً أن يضع سيد المقاومة في لبنان نفسه وحزبه وإمكاناته بتصرف قيادة المقاومة في غزة من أجل تقوية شوكة المفاوض الفلسطيني وتزويده بأوراق قوة وأسباب منعة وصمود، فيقول عبر وسائل الإعلام : ( سنوقف معركة الإسناد في شمال فلسطين في اليوم الذي يتوقف فيه العدوان على أهلنا في غزة ) .
فيا أيها المتفرجون العرب في بقية الأقطار والأمصار والأقاليم العربية، لو اعتبرنا أنكم تشاهدون مباراة كرة القدم في المونديال لكنتم أكثر تفاعلاً وحماساً وارتباطاً بفريقكم، ولكنتم تطبعون على صدوركم وسياراتكم صور اللاعبين في الميدان، وليس المطلوب منكم أن تستبدلوا صور المجاهدين في غزة بصور ميسي ورونالدو ونيمار وبنزيما ولا أن تحملوا علم فلسطين بدلاً من أعلامهم، ولكن المطلوب اليوم أن تنحازوا لإنسانيتكم في مواجهة البهائمية والتوحش والافتراس، وأن تدافعوا عن قيمكم الدينية والقومية والإنسانية أولاً، فإن غزة كما تعلمون قد وصلت إلى التصفيات النهائية في هذا المونديال وهي تواجه رغم الدمار والجوع والحصار نيابةً عن الأمة كلها لو تعلمون، لا بل إن المطلوب باختصار هو القليل من الحياء ....