نبيه البرجي - خاصّ الأفضل نيوز
قد يستغرب البعض حين نتوقع انفجار إسرائيل من الداخل , كون اليهود , بـالتأويل الملتبس للنص التوراتي , يرون في أنفسهم "شعب الله المختار" , ولا يمكن أن يصيبهم ما أصاب العرب , بالتشكيل القبلي كمجتمعات وكدول , من الافتراق والاقتتال , كما لو أن العبرانيين لم يكونوا قبائل أيضاً , وكما لو أن عرب جنوب شبه الجزيرة لم يكونوا هم من دعوهم لتحويل إلههم (يهوه) من إله قبلي إلى إله كوني لتعيده الحركة الصهيونية إلى إله قبلي .
عودة خاطفة وضرورية إلى التاريخ ، حين مات الملك سليمان حوالي عام 925 قبل الميلاد , وكانت الفوضى في ذروتها لأسباب عدة , منها فرض الضرائب الباهظة على الرعايا لتمويل مشروعاته الضخمة، وتفضيل سبطه الملكي (بنو داود) على باقي الأسباط، فكان أن انقسمت المملكة إلى مملكتين , واحدة في الشمال , ودعيت إسرائيل , وواحدة في الجنوب ودعيت يهودا . الأولى دامت نحو 200 عام , وتعاقب على حكمها 19 ملكاً ، العدد نفسه حكم المملكة الثانية التي دامت 350 عاماً .
المملكتان خاضتا حروباً طويلة في ما بينهما (حروب الأسباط) إلى أن حدث الغزو البابلي , وتدمير الهيكل عام 586 قبل الميلاد , لكأن ما يجري الآن إشارة من ذلك المكان القصي من التاريخ (3000 عام) بأن الحرب الأهلية تدق مرة ثانية فوق حجارة الهيكل , دون أن يكون هناك أي فارق بين ملوك التوراة , وبين ورثة التوراة . ولكن كيف يمكن للجدلية السوسيولوجية أن تمضي بالدولة إلى التفاعل البنيوي , والبعيد المدى , إذا ما كنا أمام العالم النووي الآتي من مانهاتن , أو عازف البيانو الآتي من بطرسبرغ , من جهة , ومن جهة أخرى راعي الماعز الآتي من أثيوبيا أو صياد الأرانب في أودية صعدة ؟
هذا ما يجعل الدولة العبرية , في ظل الصراعات الراهنة , تبدو وكأنها تقف على قرن ثور , ليقول أكاديميون إسرائيليون "إنها ساعة الخوف" .
عشرة أشهر من القتال في غزة , وهي مسرح مثالي للدبابات وللقاذفات , قد أنهكت , على نحو كارثي , أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط , كما استنزفت إمكانات الدولة إلى حد اهتزاز المؤسسة السياسية , والمؤسسة العسكرية , والمؤسسة الأمنية .
ماذا يمكن أن يحصل لتلك الدولة إذا ما غرقت في المتاهة اللبنانية , إن من ناحية التضاريس الطبيعية , أو من حيث القوة العسكرية الضاربة , بالحدود المفتوحة وبالإمدادات البشرية , واللوجيستية , الضخمة , ما يمكن أن يطيل أمد الحرب لسنوات وسنوات . هذا ما يحذر منه شاوول موفاز كرئيس سابق للأركان , وكوزير سابق للدفاع , بتجربته الطويلة في الجنوب , "أن لا نعود نرى إسرائيلياً في إسرائيل" !!
المؤشرات كلها على الأرض . بنيامين نتياهو اتهم وزير دفاعه يوآف غالانت , وهو جنرال محترف , بأنه "يتبنى خطاً مناهضاً لإسرائيل" , ليرد عليه , هذا الأخير بأن "شعار نتنياهو حول النصر المطلق محض هراء وثرثرة" , متهماً إياه بعرقلة صفقة تبادل الأسرى .
لم يحدث مثل هذا التراشق بين رئيس الحكومة ووزير الدفاع , الذي يمثل آراء قادة الجيش , منذ قيام الدولة , عاكساً مدى الأزمة الخطيرة التي يواجهها الإسرائيليون , وبعدما بدا جليّاً مدى التداعيات الكارثية للذهاب أكثر في مسلسل الحروب , إلا إذا كان الخيار النووي هو ما يرمي إليه نتينياهو لتنفيذ ما وعد به , غداة عملية "طوفان الأقصى" , حول "تغيير الشرق الأوسط" .
ما هو موقف الولايات المتحدة , في هذه الحال ؟ البنتاغون يتبنى ما حذر منه الجنرال جيمس ماتيس, وزير الدفاع الذي أقاله دونالد ترامب , أي "استراتيجية المستنقعات" , بعد تلك التجربة الطويلة والشاقة على الأرض الأفغانية كجزء من "الشرق الأوسط الكبير" .
الخوف من انفجار داخلي لا يبقي ولا يذر . هنا لا أنبياء من نسل يعقوب , أو من نسل أشعيا , ولا مجال لقيام دولتين يهوديتين , إلا إذا أنشأ المستوطنون دولتهم في الضفة (يهودا والسامرة) .
شيء ما يحدث داخل الدولة العميقة , ويشي بحدوث مفاجآت مثيرة إذا مابقي حفل الجنون في إيقاعه الحالي .
بطبيعة الحال , الجنرال بني غانتس , المعروف بجديته , وهو رئيس الأركان , ووزير الدفاع السايق , (استقال أخيراً من مجلس الحرب اعتراضاً على سياسات نتنياهو) , كتب على منصة "اكس" "إذا لم نعد إلى رشدنا , ستندلع هنا حرب أهلية ، ينبغي عدم طمس الحقيقة، هناك قيادة تنّفر الناس , وتسمم البئر الذي نحن فيه" .
ولكن حين لا يستطيع الأميركيون الذين يمدون إسرائيل بكل أسباب البقاء , وحتى التفوق , الحد من السياسات الهستيرية للقيادة السياسية فيها , هل بإمكان أي قوة داخلية أن تفعل ذلك ؟
أكثر من جنرال سابق حذّر من تلك اللحظات التي تدمر فيها الميركافا الميركافا في شوارع تل أبيب، هذه ليست لغة بديع الزمان الهمذاني، إنها لغة ما تبقى من الحكماء في الدولة العبرية ، وهاهم يسألون ما إذا كانت الدولة على فوهة البركان أم على فوهة الزلزال .