د.علي ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
تنتظر منطقة القوقاز الانتخابات البرلمانية الجورجية التي ستجري الشهر القادم في ظل تدخلات خارجية هي الأكبر في تاريخ المنطقة. تعيش منطقة جنوب القوقاز على وقع اضطرابات مستمرة بدأت مع تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 وما زالت مستمرة بفعل ما تشكله من موقع جيوسياسي لروسيا وإيران وتركيا الذين تربطهم علاقات تاريخية واجتماعية واقتصادية معها.
تشكل منطقة القوقاز أحد ممرات روسيا البرية الأساسية نحو آسيا الوسطى وإيران والصين، وممرها الاقتصادي المشترك نحو الثروات الهائلة من الغاز والنفط في بحر قزوين وآسيا الوسطى، وأحد طرق التجارة البرية الذي يصل آسيا بأوروبا عبر البحر الأسود ومن يسيطر عليها يتحكم بكل ذلك. ومنطقة جنوب القوقاز منطقة جغرافية تتشكل من ثلاث دول هي أذربيجان وأرمينيا وجورجيا.
إضافة إلى ذلك إن العلاقات الروسية مع دول القوقاز الثلاث ليست مستقرة وتعرّضت إلى العديد من الاضطرابات، وخضعت إلى المعطيات المصلحة القومية للدول الثلاث الناشئة حديثاً، وإلى الصراع على الحدود فيما بينها حيث ظهر في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا حول "ناغورنو كارباخ"، والصراع على المنطقة التي تشترك فيه من خارجها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين ومن داخلها روسيا وإيران وتركيا.
من أجل تعزيز الدور الروسي قام الرئيس "فلاديمير بوتين" بزيارة إلى أذربيجان في 18 آب/أغسطس 2024 تحمل عناوين استراتيجية، حيث تمت مناقشة القضايا المشتركة والتطورات الإقليمية والدولية. جاءت الزيارة بعد قطيعة روسية استمرت 6 سنوات بسبب إقليم "ناغورنو كارباخ" وتأييد روسيا لأرمينيا في صراعها مع أذربيجان الذي انتهى بسيطرة أرمينيا على الإقليم عام 1994. لكن مع الانزياح الأرميني نحو السياسة الأمريكية في القوقاز دفع الرئيس الروسي إلى دعم أذربيجان في حربها مع أرمينيا التي اندلعت عام 2020 مما خولها استعادة إقليم "ناغورنو كارباخ" من أرمينيا.
استقلت جورجيا عن الاتحاد السوفياتي عام 1991. وبسبب التركيبة التي اختارها مؤسسو الاتحاد السوفياتي بسلخ بعض الأراضي أو ضم بعضها إلى جمهوريات الاتحاد السوفياتي المختلفة وقعت جورجيا في الفخ "الجغرافي السياسي" عبر منطقتين "أوسيتيا الجنوبية" التي تفصلها عن روسيا(أوسيتيا الشمالية)، "وأبخازيا" التي تقطنهما أكثرية روسية وتقع على الساحل الشرقي للبحر الأسود وينتمون تاريخياً لروسيا الاتحادية واندلعت فيهما اضطرابات مسلحة أدت إلى فصلهما بدعم عسكري روسي عن الدولة الجورجية.
جورجيا وروسيا والجغرافيا الحاكمة
بدأت التوترات مع روسيا عندما قاد الرئيس الجورجي "ميخائيل ساكشافيلي" المؤيد والمدعوم من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية حركة احتجاج شعبية أطلق عليها "ثورة الزهور" وكانت تحدث في "ميدان التحرير" في قلب العاصمة الجورجية " تبليسي" عام 2003 ضد الرئيس الجورجي "إدوارد شيفرنادزه" المؤيد والمدعوم من موسكو. وعلى وقع تلك الاحتجاجات جرت الانتخابات البرلمانية عام 2003 التي فاز بها "شيفرنادزه" وحزبه وتم اتهامه بالتزوير فعادت حركة الاحتجاجات مرة ثانية وبزخم أكبر وأدت إلى انتخاب المعارضة برئاسة "ساكشافيلي" عام 2004. نجح حزب "الحركة الوطنية الجورجية برئاسة "ساكاشفيلي" من استلام السلطة وأعلن تبني سياسة خارجية مؤيدة للولايات المتحدة والاتجاه نحو التكامل مع أوروبا وتبني سياسة "أطلسية" كأولوية وخيار استراتيجي. لم تتساهل روسيا مع الانتقال السياسي لجورجيا إلى المشروع السياسي الغربي، وخاضت عام 2008 نزاع مسلح مع جورجيا أدى إلى استقلال "أوسيتيا الجنوبية". استمر وجود القوى المناوئة لروسيا في الحكم حتى عام 2012 عندما جرت الانتخابات البرلمانية وفاز بها حزب "الحلم الجورجي" الذي يرفض العداء لروسيا، ويطالب بعلاقة أكثر انفتاحاً معها، من دون التخلي عن سياسة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي. ورفض الحزب الحاكم المشاركة والانضمام إلى العقوبات الغربية ضد روسيا على خلفية الحرب الأوكرانية، ورفض إرسال متطوعين للحرب إلى جانب أوكرانيا.
المنظمات غير الحكومية المدعومة من الغرب وقانون "شفافية التأثير الأجنبي"
بلغ عدد المنظمات غير الحكومية أبان ثورة "الزهور" حوالي 4000 منظمة وهي مدعومة مالياً من الخارج. ولعبت دوراً رئيساً في الاحتجاجات التي حصلت عام 2003 وتسجيل أي منظمة هو أمر سهل وفقا للقوانين الجورجية منذ عام 1997. ويبلغ الآن عدد المنظمات غير الحكومية التي تعمل على الأراضي الجورجية أكثر من 10000 منظمة يتهمها الحزب "الحلم الجورجي" الحاكم بالعمل على تقويض الأمن القومي، والولاء للخارج، والعمل على تخريب الاقتصاد، والتأثير على قرارات الحكومة.
وفي آخر انتخابات جرت عام 2021 حصل حزب "الحلم الجورجي"على ما يزيد عن 46% من أصوات الناخبين بينما حصل حزب الحركة الوطنية المعارضة برئاسة "ساكشافيلي" على ما يزيد عن 30% من أصوات المقترعين وستجري الانتخابات القادمة في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2024.
بدوره تبنى البرلمان الجورجي الذي يسيطر عليه حزب "الحلم الجورجي" في 24 أيار/مايو 2024 قانون "شفافية التأثير الأجنبي" الذي يفرض على جميع المنظمات غير الحكومية والمنصات الإعلامية التي تحصل على أكثر من 20% من تمويلها من الخارج إلى وضع خاص تحت مسمى منظمات تسعى لتحقيق مصالح جماعة خارجية، وأطلقت عليه المعارضة "القانون الروسي" في إشارة إلى دور روسيا في هذا القانون حيث يوجد فيها قانون مشابه. وخرجت المعارضة المؤيدة للغرب إلى التظاهر وهي تلوح بأعلام الاتحاد الأوروبي وترفع شعارات معادية لروسيا. ويعمل حزب "الحلم الجورجي" على الإبقاء على تطلعات جورجيا الأوروبية مع الاحتفاظ بالسيادة الوطنية والحفاظ على علاقة مستقرة مع روسيا أي أنه يوازن الاعتبارات الوطنية الداخلية مع واقع جورجيا المحاذي لروسيا ويرفض أن تتحول جورجيا إلى أوكرانيا ثانية.
وتعقيباً على ذلك اعتبرت الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن القانون سيؤدي إلى تحجيم دور هذه المنظمات المتعاونة معها وتتلقى الدعم منها، ومن جهة ثانية سيعرقل القانون جميع أهداف المنظمات التي تتلقى تمويلاً من الخارج، وسيحد من نفوذها السياسي، وبالتالي النفوذ الغربي، خاصة فيما يتعلق بالانضمام إلى "حلف الناتو" والاتحاد الأوروبي. ولكن الولايات المتحدة والغرب عموماً لن يقف مكتوف الأيدي إزاء ما يجري، وقال وزير الخارجية الأمريكية "أنتوني بلينكن" أن الولايات المتحدة تقوم بمراجعة شاملة لعلاقتها مع جورجيا" على خلفية تبنيها قانون "التأثير الأجنبي" وطالب السلطات الجورجية بمراجعة القانون". بينما اعتبر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل "أن القانون يتعارض مع عملية اندماج جورجيا بالاتحاد الأوروبي". وفي السياق نفسه اتهم رئيس الوزراء الجورجي "ايركلي كوباخيدزة" الولايات المتحدة بدعم المنظمات غير الحكومية بهدف افتعال "ثورة ملونة" في البلاد".
السياسة الأمريكية وتحركات المعارضة الجورجية بعد إقرار قانون "شفافية التأثير الأجنبي"
وهكذا خرجت التظاهرات قبل إقرار القانون واستمرت بعد صدوره في عملية ضغط للتراجع عنه، واعتبرت السلطات الجورجية أن الولايات المتحدة تدفع نحو الفوضى في جورجيا، ولا تكترث للآليات الديمقراطية التي أنتجت السلطة الحالية، وظهر ذلك عبر تصريح أمين عام حزب الحلم الجورجي "كاخا كالادزي" الذي قال "أن الولايات المتحدة وجورجيا ليستا شركتين إنما عدُوتين".
شعر الجورجيون بالمطالب القاسية التي تفرضها الولايات المتحدة على بلادهم من خلال التكامل الاقتصادي مع الاقتصادات الغربية، وتبنّي المفاهيم الغربية الليبرالية والديمقراطية، والحفاظ على السيادة الوطنية في نفس الوقت، حيث التجربة السياسية والواقع الجيوسياسية يفترض الشروع المنظم في تبني تلك الآليات التي تفترض النضج السياسي والاقتصادي للمجتمع والدولة وهو ما لم تصل إليه جورجيا ويتعارض مع مصلحتها الوطنية والإقليمية بينما سياسة الولايات المتحدة تعمل وفق آليات الصراع الدولي على المنطقة وتنطلق من محاصرة روسيا من الغرب والجنوب وتعمل على إقفال منطقة القوقاز عبر إقامة نظم سياسية في أرمينيا وجورجيا وأذربيجان معادية لروسيا حتى لو أدى الأمر إلى نزاع مسلح كما يحصل مع أوكرانيا.
إلى جانب ذلك اعتقلت السلطات الحالية الرئيس السابق "ساشكافيلي" فور عودته إلى جورجيا عام 2021 ويقضي الآن فترة عقوبة في السجن لمدة 6 سنوات بتهمة إساءة استخدام السلطة. ستجري الانتخابات البرلمانية القادمة في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2024 وستكون حاسمة لمستقبل جورجيا إما الاتجاه غربا وزعزعة الوحدة الوطنية الداخلية واحتمال حرب مع روسيا، أو مواجهة السياسة الغربية ووضع حد للمنظمات غير الحكومية المدعومة منه، ومنع تدخلها في الشؤون الداخلية لجورجيا.